د. سيمون عبد المسيح - الأرض عند الموارنة : بين الخطاب اللاهوتي والخطاب التاريخي

  • شارك هذا الخبر
Sunday, January 24, 2021

تكاثرت الخطابات الشفوية والنصية والإعلامية المتعلقة ببيع الأراضي وانحسار الوجود الماروني من المناطق الطرفية، وتقلص المساحات العقارية التي يملكونها حتى داخل بعض المجالات الجغرافية التي يشكلون فيها أكثرية سكانية. وتبدو عملية الإنحسار هذه وكأنها مزيج من ديناميات ليبرالية السوق العقاري ومخططات إرادية هادفة الى تغيير الجغرافيا السكانية . وتتزامن حركة بيع الأراضي منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين، مع انخفاض الثقل الديموغرافي (بحسب المناطق وعلى المستوى الوطني بفعل نمو منخفض ونزوح وتهجير وهجرة)، وتراجع الوزن السياسي في النظام والإدارة، ومناخ عام غير آمن. ويبدو أن القوانين التاريخية التي كانت تعمل لصالحهم بشكل إيجابي في مرحلة الحداثة وما قبلها قد انقلبت عليهم في بدايات مرحلة ما بعد الحداثة، وهذا ما ينبغي وصفه وتفسيره ووعيه .
أولاً: سمات الخطاب اللاهوتي والمثالي
كيف تقارب "الخطابات المارونية" مسألة الأرض ؟ في تصنيف أولي، هناك خطابات مارونية تناولت الأرض اللبنانية (أي الجغرافية الطبيعية والسياسية ) بشكل عام من منظور "التمايز" و"الخصوصية" ، أي ببنيتها الداخلية (جبل وبحر) واختلافها عن محيطها الخارجي، وقد سادت هذه الخطابات حتى ثمانينيات القرن العشرين. أما الخطابات التالية التي تنتمي الى القرن الواحد والعشرين فقد انصبت على أزمة مركبة بين عمليات البيع الإرادية والممنهجة، والإنحسار الماروني عن الجغرافيا الوطنية. وفي الحالة الأولى لم يكن الهم المسيحي غائبا عن الجغرافيا الوطنية، وفي الثانية لم يغب الهم الوطني رغم الإنشغال ب "الجغرافيا المارونية" .
لقد زُرعت بزور خطابات المرحلة الأولى في عهد المتصرفية، وأثمرت سياسيا في مذكرات الوفود اللبنانية الى مؤتمر الصلح (1919) في باريس، وازدادت رسوخا في عهد الإنتداب الفرنسي بعد إعلان لبنان الكبير . كان لعلوم الأركيولوجيا والجغرافيا والتاريخ والإتنولجيا وعلم النفس (حول سمات الشخصية اللبنانية) المساهمة في تكوين هذه الخطابات ودعمها بالحجج العلمية منها والإيديولوجية، كما تشكلت مؤسسات سياسية (جمعيات وأحزاب) وصحفية (وبخاصة المجلة الفينيقية) وثقافية وتربوية (عبر المناهج وبخاصة مناهج وكتب التاريخ المدرسي) لنشر وتشريب العقيدة اللبنانية.
1- تمثل نصوص ميشال شيحا (من الأقليات المسيحية) نموذجا واضحا وتأسيسيا عن هذه الخطابات، ذلك "أن تداخل الجبل والبحر منح لبنان الخطوط الأساسية لسيمائه الخاصة. لقد شكلا القطبين اللذين دارت حولهما، منفردين ومجتمعين، وتحددت عبرهما تركيبة لبنان المعقدة وحتى المتعددة: الحركية ، والهضم السريع للأجنبي، التجارة، السفر، هذه هي حصة البحر. أما مساهمة الجبل ففي كونه الملجأ، والدفاع ضد الإضطهاد، والتمسك بالخصوصيات"[2] (Salem,1970). وبما أن مناخ لبنان بارد بفعل ارتفاع جباله فهو بلد العمل، بالمقارنة مع مناخ الصحراء الحار حيث "بلدان الحلم والكسل". هذا الواقع الجغرافي المناخي "يخلق إنسانا جديدا شديد الإختلاف عن إنسان الصحراء القريبة، وشبيها بإنسان الشمال بنشاطه ومثابرته".
إن عناصر الخصوصية اللبنانية هما الجبل والبحر: " نحن سلالة جبليين وبحارة"، ولبنان بلد ذو روح متوسطية، وموقعنا بمثابة "المركز المفتاح" بين القارات، وهو "صلة وصل"...وميشال شيحا هو من صاغ "لاهوت الأرض" في بناء الوطن إذ "لم يبن كعلماني قاعدة الحل على حوار المعابد من كنائس وجوامع" بحسب المفكر الإلماني "توماس شيفلر"، إنما البديل "في عبقرية ميشال شيحا هو لاهوت المكان، لاهوت الحيز (Espace)،لاهوت الأرض (Théologie de territoire) الأرض الواحدة التي توحد في العيش وفي المعاناة وفي المصير وفي الحرية .." (خليفه، 2013).
2- مع المؤرخ الماروني جواد بولس أضحت الجغرافيا عاملا جوهريا في التاريخ : " التاريخ الإنساني يغوص بجذوره كلها .... في الواقع المادي للأرض. وعلى خريطة العالم نجد بقعا إنسانية حية تلتصق لزمن طويل بالأماكن نفسها" ((J.Brunhes, La Géographie Humaine,Ed.Abregee.p.24,26) في جواد بولس، 1973، ص.15). إذا البيئة الطبيعية (مناخ وتربة وموقع جغرافي) هي عامل جوهري في التاريخ. وبنظر بولس لبنان أمة جغرافية وتاريخية حيث يتمتع بشخصية جغرافية تعيش داخلها ومنذ ازمان بعيدة مجموعة انسانية (شعب، أمة)، لها طبائعها الأساسية الجسمانية والنفسية، بفعل تأثير العوامل الطبيعية والوراثية. (العناصر الأخرى مثل الجنس واللغة والدين تصبح عناصر ثانوية متغيرة) . " وهكذا فتاريخ لبنان هو شخصية جغرافية جماعية حافظ دوما ، تحت أسماء مختلفة (نيغا، كنعان، زاهي، فينيقيا، لبنان،..) على طبائعه الأساسية المميزة، منذ أقدم العصور حتى أيامنا هذه" (بولس، ص. 22).
وتأكيدا للتمايز لا يمكن فهم جغرافية لبنان إلا في إطار جغرافية البلدان المجاورة له، وتحديدا في إطار القسم الغربي من الهلال الخصيب (لبنان وسوريا وفلسطين) حيث تظهر هذه المجموعة ككل متناسق ومتجانس، ولكن "تعقيدات تكوين هذا المستطيل، ومناخه وتناقضاته الطبيعية الداخلية حكمت عليه بالتجزؤ القومي والديني والسياسي". (بولس، ص. 23).
وفي" وسط هذا المستطيل سور مزدوج من الجبال: جبال لبنان، والسلسلة الشرقية التي تفصل ما بين البلد اللبناني وسوريا الداخلية (دمشق ومنطقتها). وهكذا تولد وسطان طبيعيان متميزان : الواحد الى الغرب والثاني الى الشرق، وهما يختلفان في المناخ والتكوين. ففي حين أن لبنان المفتوح على البحر المتوسط، والمنعزل عن الصحراء، يؤلف منطقة متوسطة وجبلية محضة، تؤلف سوريا الداخلية (الدمشقية)، المفتوحة على الصحراء والمنعزلة عن المتوسط، سهلا قاريا مرتفعا، يغلب عليه المناخ الصحراوي." (بولس، ص. 23)
ويتابع بولس نظرية الملجأ التي صاغها الأب اليسوعي هنري لامنس، حيث جبال لبنان العالية تساعده على الدفاع عن نفسه بجهد قليل ضد الغزوات الخارجية،فجبل لبنان، شأنه شأن سائر الجبال، يتعهد الحرية والإستقلال.
ويختم بولس كتابه معتبرا أن لبنان هو وليد الجغرافيا والتاريخ، مستندا الى مجموعة نصوص تناولت لبنان من منظور الأسس الجغرافية للتاريخ : " جبل لبنان هو أعلى جبل في بلدان الشرق الأدنى، إذ يتجاوز 3000م.، كما هو الأكثر حظوة بالثروات المائية،..ينعم، علاوة على هذا، باتصال مباشر بالبحر المتوسط، إذ تعلو سفوحه الموعرة خلجان الشاطيء ومرافئه... وهذا الطابع المزدوج، الذي يجعل من لبنان الجبل العالي صنوا للإستقلال، ومن لبنان الجبل البحري انفتاحا على التأثيرات الخارجية، يفسر لنا كون لبنان دعامة لبناء سياسي من أقوى المنشآت السياسية في الشرق الأدنى، ومن أكثرها أصالة" (X. de Plamhol, Les fondements géographigues de l'histoire de l'Islam,p.41-43. في بولس، ص. 411.)
إن لبنان الحالي هو وليد الجغرافيا والتاريخ و"حصيلة " تطور الشعوب التي عاشت في هذه البلاد منذ ما قبل التاريخ. وجغرافيته المتميزة تساهم وبإرادة الجماعات المختلفة في تحقيق وحدته السياسية.كما أن الأوضاع الطبيعية والإقتصادية وسمت سكان لبنان بطابع خاص مميز " ففي نفسية الشعوب يوجد أساس من الثبات يظهر دائما" (A.Siegfried).إذا هناك "صفات نفسية خاصة، وذات رسالة بجوهرها تجارية بحرية وثقافية" (بولس، ص.412) . منهيا بإثبات نص للمؤرخ توينبي : " ان اللبنانيين الحاليين ليسوا خلفاء الفينيقيين بالمعنى الحصري للكلمة... ومع هذا فان الفينيقيين واللبنانيين الحديثين يمتلكون معا تقاليد ومؤهلات غاية في الأهمية. فكلاهما افاد من ملجأ طبيعي – البحر للأول، والجبل للأخيرين - ، لكي ينصرفوا للأعمال التجارية بكليتهم. وكلاهما أنشأ امبراطورية اقتصادية في الغرب، وكلاهما اقام مستعمرات للتجار في جميع انحاء العالم الغربي المعروف في أيامه" .
3- مع المطران الماروني واستاذ الفلسفة الجامعي حميد موراني تدَعم الخطاب الماروني برؤية "هيغلية" عن تقدم الحرية في التاريخ. ففي "محاولة تفسيرية" بعنوان "من أرض المارونية الى المارونية الأرض" كتب أن هناك حدثا مؤسسا للتاريخ الماروني هو هجرة الموارنة من أرض سورية الى أرض لبنان، ومعنى هذا الحدث المؤسس هو "البحث عن الحرية والإستقلال بالذات"، ومن خلال تطور تاريخي طويل أدرك الموارنة مارونيتهم "كروح وأرض"، "فإنهم يشيرون الى أولية الأرض في قيام "روح شعبهم"، لكنهم يدلون معا الى الجدلية التي لا بد أن تقوم بين الروح والأرض" (موراني، ص، 66).
لقد أدركت ذاتية الموارنة الواعية لذاتها أن أرض سورية مهدِدة لها، وأن أرض لبنان هي أرض الحرية واستمرار الذاتية، فالأرض الجديدة عنت الحفاظ على ذاتيتهم "فالأرض من هذا القبيل رسمت حدود الذاتية والمجال الذي لا تكون عليه غريبة عن ذاتها"، وقد "نتج عن ذلك ضرورة أن تعلقت المارونية بالأرض تعلقها بذاتيتها، وبالتالي انتقلت الى مورنة الأرض، بحيث لا تبقى خارجية بالنسبة الى ذاتيتها".
لقد كتبت المارونية تاريخها الحقيقي الأول، ليس في كتب من ورق، بل في كتاب أرضها. "لقد أخضعت الأرض لحاجاتها، فعملت منها أرضا للعطاء، وللعبادة، وللدفاع عن الذات... ولم تكن الأرض حدودا فقط، بل أصبحت التعبير الأهم عن استقلالية الموارنة، وجزءا أساسيا من سلوكهم الحضاري"، فالمارونية تربط الأرض بالسماء وتقرنها بإيمانها، وتنظر الى الأرض على أنها مقدسة.
وهكذا فإن الذاتية المارونية المتفاعلة مع المكان والزمان أضحت "روح شعب" بالمعنى الهيغلي، أي صاحبة تاريخ له حضوره في التاريخ الكلي، وله فعاليته المميزة.
أما المارونية – الأرض فهي قاعدة ثابتة من جهة، ومنطلقا فعالا من جهة ثانية .. بمعنى أنها تستحل مكانها في التاريخ ولها ما للأرض من جذور وصلابة .
وقد استطاع حميد الموراني أن يمسك بإحدى السمات التاريخية للتجزؤ الماروني وهي " أن الروح المارونية لم تستطع أن تسيطر على منطق مناطقها، ولذلك لم تستطع أن تكون مجتمعا متناسقا، ولم تستطع أن تقف دائما على مستوى ذاتيتها، فجاء قياديوها في أكثر الظروف دون روحها وذاتيتها" (موراني، ص 70).
4- استلحق"المجمع البطريركي الماروني" (النصوص والتوصيات، بكركي 2006) موضوع الأرض في النص الأخير (وهو النص الثالث والعشرون المندرج في الملف الثالث عن "الكنيسة المارونية وعالم اليوم") بعنوان "الكنيسة المارونية والأرض" بعد فصول تتناول الشؤون الإجتماعية والإقتصادية والإعلامية . فما هي مكونات هذا النص ؟
يؤكد النص على الإرتباط بين الأرض والهوية المارونية، وأن الأرض قيمة انتقلت الينا كإرث مادي وروحي تكونت من خلاله وعليه الهوية المارونية. ولكن هذا الإرث "مُعَرض اليوم الى مزيد من الذوبان والتناقص بسبب عوامل عديدة .. وهذا ما يعرض الهوية المارونية نفسها الى الخلل وفقدان التمايز التاريخي والروحي. فإذا ربح الماروني العالم كله وخسر الأرض التي تكونت فيها هويته التاريخية يكون قد خسر نفسه " (المجمع، ص 829).ويستعرض المجمع الثوابت اللاهوتية والوجدانية ومن ثم التاريخية والبيئية التي تؤكد العلاقة بالأرض. فمن خلال الثوابت الإيمانية واللاهوتية يتم الربط بمعطيات الكتاب المقدس والإستنتاجات اللاهوتية منه، حيت تلبس الأرض "بُعد قداسة"، و"بُعد الرسالة والإنارة ومشاركة الآخرين بالبركة الإلهية". لقد أصبح للأرض بفعل التجسد الإلهي" قيمة خلاصية"، وهي عطية الهية ثمينة، ومساحة للعيش الحر الكريم. أما الثوابت الوجدانية والإنسانية فتتمحور حول أن الأرض ليست ملكنا بل هي إرث من الآباء والأجداد ووديعة ثمينة أو "ذخيرة مقدسة ". إنها تصلنا بالأجيال السابقة بعلاقة روحية- فهي ليست نفعية بمعنى ثمار ومواسم مادية فحسب- إنما العلاقة بها هي تأكيد على الهوية الخاصة والتفاعل مع التاريخ.
تبدو هذه الثوابت من مرتكزات الخطاب الديني، ولكن ما هي الثوابت التاريخية تحديدا وفق نص المجمع ؟ هناك إشارة سريعة الى تأصل "الهوية التاريخية المارونية" في الإطار الإنطاكي، إنما في لبنان حصل تأثر المجتمع الماروني بالبيئة وبالجغرافيا التي عاش فيها، وزرع وسقى أرضها من عرق جبينه، فأمنت له الضروري من أجل العيش واحتمى بها من صروف الدهر والإضطهادات، فانطبع بها وطبعها بإيمانه وديناميته الثقافية وانفتاحه على مختلف الحضارات".
يؤكد النص على أن الأرض هي إرث وليست رزقا للتجارة أو ملكا للتصرف فيه بهوى، ومن هنا فالهم هو تسليمها كأمانة كاملة الى الأجيال الآتية . "معاذ الله أن أبيعك ميراث آبائي" حسب ما ورد في نص الكتاب المقدس بعهده القديم.
هناك 3 أفكار تأخذ بعدا تاريخيا بالمعنى الواقعي للكلمة ، الأولى أن التوسع الماروني الى كل لبنان نابع من القيم الإيمانية والرسولية، فلبنان – الأرض هو وطن التلاقي وقبول الآخر، والثانية تناولت العمل في الأرض مع إشارة الى "نظام الشراكة" الذي طبقته الكنيسة (ورجالات الإقطاع) من أجل استثمارها "هذه الشراكة أدت تاريخيا الى تأسيس قرى جديدة حول الأديار" وهي شراكة جعلت حياة المؤمنين مطبوعة بالأبعاد الروحية. والثالثة وهي على درجة كبيرة من الأهمية حيث يشير النص الى التأثيرات السلبية في أخلاقيات الموارنة وروحانيتهم وتقاليدهم بسبب تحول المجتمع الماروني من مجتمع ريفي زراعي الى مجتمع مديني تجاري وصناعي وخدماتي، مع ما لهذا التحول من حسنات، بحسب النص أيضا.
5- تستلهم نصوص المؤتمر الأول للرابطة المارونية بعنوان "أرضي هويتي" (2014) روحية نص المجمع البطريركي (2006)، إلا أنها قدمت إضافتان مميزتان، الأولى أنها ربطت بطريقة غير مباشرة بين التبدل الديموغرافي (إنخفاض نسبة المسيحيين الى 35%) وتبدل الواقع الجغرافي والعقاري، حيث ساهمت مسألة التجنيس(1994) والهجرة الداخلية باتجاه المناطق المسيحية والهجرة المسيحية الى الخارج، في زيادة عدم التوازن. على أن المداخلات لم تعالج الموضوع إلا من منظور إحصائي بعيدا عن العلاقة الدينامية والمتبادلة بين الديموغرافيا والأرض.
أما المساهمة الأساسية الثانية، فهي مداخلات كبار المشرعين والقانونيين الموارنة حول كيفية وضع تشريعات تحدد تملك الأجانب، وتحول دون انتقال أملاك المسيحيين الى الطوائف الأخرى. ويبدو أن الجدل مع وجهات نظر مناهضة تمحور حول دستورية أي قانون ينحو هذا المنحى.
تسوق المداخلات حججها الدستورية، انطلاقا من أن الأرض هي العنصر الحاسم في تكوين الهوية الوطنية، وأن الدستور قد حظر في مادته الثانية "التخلي عن أحد أقسام الأراضي اللبنانية أو التنازل عنه"، كما كفل الدستور في المادة 15 حق الملكية للبناني وحصرها به تطبيقا لمبدأ السيادة.
أما التشريعات العادية المتعلقة أولا بتملك الأجانب، فقد تراوحت بين مقاربتين واحدة متشددة وأخرى متحررة، وذلك وفق معايير المساحات ورسوم التسجيل. فهناك فرق بين تملك شقة سكنية والمساهمة في المشاريع التجارية والصناعية والخدماتية من جهة، وتملك الأراضي الشاسعة من جهة ثانية. كما ينبغي التفريق بين رسم التسجيل الذي يدفعه الأجنبي وذلك الذي يدفعه اللبناني. أما فيما يتعلق ثانيا ببيع الأراضي بين اللبنانيين،فالمسألة ترتبط بالحفاظ على النسيج الإجتماعي اللبناني واستمرارية العيش المشترك. وبقطع النظر عن إمكانية وضع تشريع ينظم هذه الناحية، فالتعويل يقع على وعي المالكين ومسؤوليتهم وحسهم الوطني، وتأسيس صناديق عقارية استثمارية، وإعطاء البلديات وأبنائها حقوق شفعة..(خوري، صً.ص.55- 57).
في مقاربة قانونية أخرى ينطلق الباحث من مبدأ عام : " إن حق التملك ليس مطلقا لأن معظم الحقوق تمارس ضمن قيود وضوابط تهدف الى تحقيق المصلحة العامة". وبالتالي فإن القانون يضع القيود والضوابط لممارسة هذا الحق بما يتلاءم وأحكام الدستور. ويمكن اعتبار "المصلحة العليا" للدولة ما يبرر أي قيد لحق الملكية. "إذا ..من واجب المشرع أن يضع حدا لبعض التصرفات ولبعض البيوعات التي من شأنها أن تؤدي الى فرز وانحسار مجموعة من اللبنانيين من منطقة معينة وانتشار مجموعة أخرى في مكانها". ويبدو أن تعديل أحكام حق الشفعة بإعطائه للبلدية وأبنائها هو من الوسائل التي تحول دون انتقال الملكية بين المجموعات الدينية(خوام، ص. 59).
وانطلاقا من المبدأ العام أعلاه، يجادل أحد المنتدين في مرافعة قيمة وطويلة رأي هيئة التشريع والإستشارات التي اعتبرت أن مشروع بيع الأراضي بين اللبنانيين غير دستوري. فيسوق أولا عددا من القيود على الحق المطلق، مثل حق الشفعة في قانون الملكية العقارية، وقوانين الإستملاك والإيجار وتملك الأجانب...ما يعتبر قيودا على ممارسة حرية التعاقد والتصرف بالملكية العقارية. واستنادا الى حيثيات وحالات متنوعة (من سنغافورة و"قانون الكوتا"، الى سوريا وقبرص) يؤكد الباحث "أن القيود المقترحة على بيع الأراضي بين اللبنانيين تأتي هنا للحفاظ على منفعة وطنية تتمثل في وجوب عدم استعمال الإكراه بمختلف أشكاله بغية التأثير على إرادة المالك أولا وبغية عدم حصول فرز للسكان على أساس مذهبي أو ديني أو عرقي.." (سعد، ص. 73).
ثانيا : نظرة نقدية للخطاب اللاهوتي والمثالي
1- ما نحاوله في هذه الرؤية النقدية، هو إعادة ربط الفكر بحقيقة الواقع التاريخي، ذلك أن الخطاب المثالي واللاهوتي هو نص متعالٍ وغير زماني، وهو على سبيل المثال لا يهتم بالتحقيبات التاريخية (لأن كل حقبة تحمل مدلولاتها وأنماطها وسماتها وقواها الإجتماعية الصاعدة)، ولا بالأنماط الإقتصادية والسياسية المتحولة، ولا بالإطار الإقليمي والدولي المؤثر على التحولات الداخلية. ففي تجاهل هذه الحركية التاريخية يستحيل فهم الأزمة المعاصرة.
ولا نهدف الى مجرد نقد الخطاب المثالي والشاعري فحسب، إنما الدعوة الى تفكير تاريخاني يكتشف الحقيقة الموضوعية، ويستوحي مسارها ودينامياتها، ويعي الحاضر وتحولاته، ليرسم استراتيجيات المستقبل باستعبار التجربة التاريخية، ولكن أيضا ربما باستيداع هذا الماضي، حيث أن الظروف الداخلية والإقليمية والدولية، قد تغيرت وتبدلت .
لا يحاول الخطاب المثالي فهم بدايات الصعود والإنتشار والعوامل والظروف المساعدة، مثل العلاقة بين التوسع العقاري والجغرافي الماروني وآليات عمل النظام المقاطعجي ومسار تحلله في المرحلة العثمانية، ما يساعده من منظور الرؤية التاريخانية على فهم صعود قوى جديدة داخل النمط الرأسمالي والليبرالي (منذ بداية القرن التاسع عشر) الذي كان بعض الموارنة من وكلائه إن لم نقل من رواده.
2- تدرك الإيديولوجية المارونية المعاصرة الأزمة المركبة والمتداخلة بين الديموغرافيا والجغرافيا والإقتصاد والأمن في حالتها الراهنة. ولكنها لم تقبض جيدا على العلاقات الجدلية بين هذه الديناميات عندما كانت تعمل بشكل إيجابي لصالح الموارنة كأفراد وجماهير ومؤسسات. هل بسبب نقص في البحث التاريخي العلمي ؟ أم بسبب طغيان التفسيرات الإيديولوجية اللاهوتية والمثالية والشاعرية ؟ ربما يطمس التفسير الإيديولوجي حقائق تتعلق بالديناميات داخل الطائفة وفي ما بين المجموعات الطبقية والطائفية، وذلك حرصا على التفوق الطبقي ومراعاة للخطاب الوطني التعايشي.
فما هي العلاقة بين الديموغرافيا والأرض في مسار التوسع الماروني ؟ لقد شهد المجتمع الزراعي الماروني نموا ديموغرافيا كبيرا بفضل مجموعة عوامل : الزواج المبكر بما يسمح بفترة خصوبة طويلة، ندرة عزوبية النساء، فواصل زمنية ضيقة بين الولادات في العائلة الواحدة، ومناخ ديني وجنساني مشجع. هذه الثورة الحيوية التي تحققت حتى منتصف القرن التاسع عشر، انتجت خزانا بشريا فاض باتجاه الفراغات المكانية، حيث كانت العائلات المقاطعجية بحاجة الى يد عاملة خبيرة في الزراعة، لتأمين الغذاء وتتجير الفائض ودفع الضرائب.
لن نتوسع في هذه المقالة بتاريخية هذا الإنتشار وأمكنته عبر 4 قرون، وبآليات تملك الأرض وفق مزيج من هبات قليلة، وأنظمة شراكة وبخاصة تلك المعروفة بشراكة "الشلش" (تملك نصف الأرض المستصلحة والمزروعة بالأشجار المثمرة بعد فترة زمنية محددة)،والأهم عبر الشراء الشرعي نتيجة التراكم المالي المتحقق من العمل ومن عائدات بيع الشرانق والحرير. كما لن نتناول من هي القوى المارونية التي حققت عملية التوسع والإنتشار وأسبقية كل منها أو العلاقات المتداخلة والمتزامنة فيما بينها : الفلاحون، الأسقفيات،الرهبانيات،الخواجية التجارية .
لقد توقفت هذه الدينامية الجدلية بين الديموغرافيا والإنتشار بأزمة كبيرة ومستمرة منذ بداية أربعينيات القرن التاسع عشر، وذلك بشكل متزامن مع التأثيرات السلبية لانفتاح اقتصاديات جبل لبنان (والإقتصاد العثماني ) أمام الإقتصاد الرأسمالي الأوروبي. لقد بدأت مظاهر الأزمة بانخفاض النمو الديموغرافي (هبوط متوسط الأولاد في العائلة من 6 الى أقل من 3 أحيانا) وبداية ظاهرتي النزوح والهجرة، انتهاء بمأساة الجوع في الحرب العالمية الأولى.
3- يتناول الخطاب اللاهوتي والمثالي والشاعري الأرض وكأنها مجال ارتسم مرة واحدة، وهو مطوب وينتظر قدوم شعب مضطهد من محيط انطاكيه، متجاوزا الديناميكية التاريخية للإنتشار، حيث الإختلاط السكاني كان السمة المهيمنة، والسلطة هي لقوى من خارج الجماعة الدينية. فالتوسع الجغرافي والعقاري حدث بفعل التحلل والتفكك البطيء للنظام المقاطعجي ونواته الصلبة عائلات إسلامية ودرزية وقد تحول بعضها الى النصرانية . ولكن المفارقة المحزنة أن الرأسمالية المارونية بمؤسساتها الرهبانية والخواجية التجارية الصاعدة في القرن التاسع عشر، أعادت تجميع الملكيات العقارية وفق آليات إقتصادية قاسية وغير إنسانية، وعلى حساب الفلاحين من أبناء جلدتها بتحوليهم الى فقراء من دون أرض..
4- منهجيا، وفي تفسيرنا لمسألة الأرض، ينبغي عدم التوقف فقط عند ظاهرة زحزحة المجالات الجغرافية للطوائف ككتل متراصة، أو توسع إحداها على حساب الأخرى، أو اختراق طائفة للمجال الجغرافي لطائفة أخرى (مع اعتباره في مرحلة الإنتشار "رسالة " أو "ثورة بيضاء" وفي مرحلة الإنحسار فرز وتطهير، وفي أحيان أخرى يتم الحديث عن استعادة حق تاريخي أو توق للوجود في المركز ...). بل الأجدى التوقف عند توزع الملكيات داخل المجال الجغرافي للطائفة، ومسارات توسع الملكية الفردية في زمن الإقطاع الخارجي عن الطائفة (هنا تأخذ الحرية الفردية معناها الحقيقي) ثم تقلص هذه الملكية في زمن الخواجية المنتمية الى الطائفة. لقد نفذت الخواجية كقوة اقتصادية صاعدة سياسات عقارية خطيرة داخل الرعية. وربما يساعد هذا التفسير على فهم قاعدة تاريخية تقول بأن الآليات الإقتصادية الرأسمالية تعمل على شكل طاحونة لا تميز بين القمح "البلدي" وأنواع القمح الأخرى. لقد حدثت الإساءة الى علاقة الفلاح الماروني بأرضه التاريخية من قبل الخواجية المارونية طيلة القرن التاسع عشر، ومن خلال آليات اقتصادية جهنمية، أدت الى التنفيذ العقاري وتحويل الفلاحين إما شركاء في أرضهم، أو دفعت بهم الى النزوح نحو المدن في مرحل أولى ثم الى الهجرة في مرحلة ثانية .
5- تقتضي الأمانة العلمية قراءة نص الأرض في المجمع البطريركي في سياق نص "الكنيسة المارونية والقضايا الإقتصادية" حيث تبنت مفهوم "الصالح العام" كما صاغه توما الأكويني مستندا الى تعاليم المسيح، بالإضافة الى سلسلة الرسائل البابوية المتعلقة بالشؤون الإجتماعية – الإقتصادية.ولقد أكد النص على التوازن بين مبدأ التضامن ومبدأ الحرية في التنظيم الإقتصادي. وهناك تأكيد في فقرات متفرقة من النص على تلاقي القواعد الأخلاقية الإقتصادية التي تقول بها الكنيسة مع القواعد الليبرالية الإقتصادية الكلاسيكية. ولقد برز تأثير الأب يواكيم مبارك[3]، في الإشارة الى مناصرة الكنيسة للحركة الإجتماعية الفلاحية في مناهضتها للروح الإقطاعية زمن البطريرك مسعد (1858-1860)، ومساندة البطريرك عريضه لمزارعي التبغ في ثلاثينيات القرن العشرين في اعتراضهم على شركة الإحتكار الفرنسية (Moubarak,2004).
وينتقد النص المجمعي ضمنيا بروز "تيارات فكر اقتصادي جديد بعد الإستقلال أسهمت في إجراء قطيعة بين الحاضر والماضي وتراثه ومبادئه في الهم الإجتماعي الداعي الى إقامة مجتمع عادل وتضامني. وقد تمثل هذا الفكر الإقتصادي، بهيمنة النظرة الى خصوصية حتمية للإقتصاد اللبناني، تدعو الى جعل وظيفة لبنان الإقتصادية التخصص في دور الوسيط في التجارة والخدمات... على حساب تطوير قطاعيه الزراعي والصناعي، على ألا تتدخل الدولة في الإقتصاد، وأن تترك لآليات السوق قيادة دفة الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية " (المجمع، ص. 771). وقد تم نشر هذه الرؤية بالعودة الى التراث الفينيقي، ولكن من منظور النص، تم إبراز الجانب التجاري وإغفال الجانب الإبداعي والخلاق في الحضارة الفينيقية.
تبدو الروحية العامة للتحليل الإقتصادي ومن ثم للتطلعات المستقبلية في النص البطريركي، مناهضة للشيحاوية وخليفتها "الحريرية" في التسعينيات، فالعناوين تشي بتوجه آخر نحو " طرح نظرة بديلة ومتوازنة الى الإقتصاد اللبناني، وذلك عبر تأكيد المباديء والقيم الخاصة بالكنيسة في الحياة الإقتصادية والإجتماعية وتحديد مواقع الإنحراف من خلال العودة الى "معايير أخلاقية" وتصحيح النظام الضريبي، والإشارة الى مواقع الخلل في السياسة النقدية لجهة الفروقات الشاسعة في بنية الفوائد ما أدى الى تشوهات اقتصادية ومالية كبيرة . كما أن "الآلية السلبية" في الفوائد وسعر الصرف هي المسؤولة بحسب النص عن ارتفاع الدين العام.
6- بينت التجارب التاريخية أن محاولات ضبط حركة التاريخ عبر الدساتير والتشريعات والقوانين، غير مجدية على المدى الزمني، أو أن فاعليتها تتضاءل تحت ضغط الوقائع الديموغرافية والمادية. لقد تعرضت المحاولات التشريعية لضبط حركة انتقال الملكيات الى الأجانب وفيما بين الطوائف الى معارضة تحت عناوين عدم دستوريتها، أو تعارضها مع مبدأ الليبرالية الإقتصادية، أو حق المواطن في السكن والإستثمار في أي بقعة من أراضي الوطن...هذا عدا امكانية اتهامها بأنها محاولة فوقية لإدامة "إمتيازات" سياسية واقتصادية، فيما يشبه الإتهامات الموجهة لدستور ما قبل الطائف.
إذا، ينبغي في موازاة هذا الجهد القانوني (أو العنف القانوني) لوقف حركة الواقع التاريخي (وكان الإقطاع في منتصف القرن التاسع عشر قد استخدم العنف المادي لوقف التاريخ أو "لإعادة القديم الى قدمه")، التفكير على إمكانيات وآليات استعادة "القوى العميقة" (في علاقات التوازن بين الطوائف) بحسب نظرية "بيار رينوفان" في العلاقات الدولية. وهذا ما يتطلب إعادة خلق العلاقة بين الديموغرافيا والأرض (عبر الزراعة) والمناخين الديني/القيمي والجنساني ما ينتج نموا سكانيا مرتفعا.وهذا يعني تصحيح الخلل القيمي "في أخلاقيات الموارنة وروحانيتهم وتقاليدهم" ومعالجة "المؤثر السلبي في تحول المجتمع الماروني من مجتمع زراعي الى مجتمع خدماتي" وأزمة الزراعة نتيجة هذا التحول (المجمع البطريركي، ص.841)،والحفاظ على الموقع الاستراتيجي في المركز الجغرافي، وإعادة ربط اقتصادنا بآليات التبادل الإقتصادي الدولي بسلع زراعية وصناعية ، وتكوين وعي تاريخي عبر تربية وثقافة ملتزمة، وتأطير كل ذلك في "براكسيس" أو فاعلية تنظيمية عملية.
المراجع :
جواد بولس، لبنان والبلدان المجاورة، مؤسسة بدران وشركاه ، ط٢، بيروت ١٩٧٣.
المجمع البطريركي (2006)
حميد موراني (المطران)، الوجدان الماروني .
نصوص مؤتمر "أرضي هويتي" ، تنظيم الرابطة المارونية .
Jean Salem, Introduction à la pensée politique de Michel Chiha, lib. Samir,Beyrouth,1970.p127.
Youakim Moubarac,un home d'exception,Textes choisis et presentes par Georges Corm,Lib. Orientale, 2004.
[1] أستاذ التاريخ وطرائق تدريسه في كلية التربية – الجامعة اللبنانية.
[3] يعترف يواكيم مبارك أن "المعالم المارونية" في ميدان "الترقي الإجتماعي والإقتصادي" قد لا تكون ظاهرة كما في الإبداع الثقافي أو الإلتزام الوطني. إلا أنه يشير الى "التزامين مارونيين في الحداثة لتقييد الخيارات المارونية في مجالات الإجتماع والإقتصاد بممارسة لا تقل عن سواها ارتباطا بالأصالة وصواب المسيرة". والإلتزامان هما مناصرة البطريركية للحركة الفلاحية منتصف القرن التاسع عشر، ومساندة البطريرك عريضه لمزارعي التبغ في ثلاثينيات القرن العشرين. والسؤال المطروح أمام المصير الماروني في يومنا هو "كيفية الإلتزام الماروني الكنسي بالشعب وفي مواجهة الإقطاعيات المستحدثة التي فرضت نفسها عليه، من خلال الحرب اللبنانية، ولم تكتف بالصعيدين السياسي والعسكري، بل أذاقته الأمرين على الصيد الإقتصادي". تصور تجريبي لمشاريع النصوص الأساسية ومقترحات استطلاعية مستقاة من الأعمال التمهيدية والتحضيرية (1992). في Youakim Moubarac,un home d'exception,Textes choisis et presentes par Georges Corm,Lib. Orientale, 2004.