هذه النظريّة التي تفتك بعقولنا...- أسعد قطّان

  • شارك هذا الخبر
Sunday, January 24, 2021

يضيق ذرعك بالكلام عن نظريّة المؤامرة. هناك «عقول» لا ينفع العقل معها. لم تتعلّم أن تفكّر ولا تريد أن تفكّر. تفضّل اختزال العالم، وما يحصل فيه، بحفنة من المعادلات اللا-عقليّة ربّما لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، هذا إذا أردت أن أكون متفائلاً. الواتساب هو الوسيلة المفضّلة كي تنشر نظريّة المؤامرة نظريّاتها. فتجد الأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء وبشراً لم يحصل لك شرف التعرّف إلى وجوههم الكالحة يمطرونك بتفاصيل نظريّة المؤامرة: من اللقاح الذي يهدف إلى التلاعب بالتركيبة الجينيّة للبشر وإصابتهم بالعقر بإيعاز من بيل غايتس، وصولاً إلى الصهيونيّة العالميّة التي تريد استعباد الناس مستغلّةً الجوائح وشيفرة اللقاحات المفبركة بين سور الصين العظيم وتمثال الحرّيّة في نيويورك.
أيّها السيّدات والسادة: القلق حيال دواء جديد يُختبر للمرّة الأولى شيء والمؤامرات الكونيّة شيء آخر. حين اخترع الطبّ في الستّينات حبّة منع الحمل، قامت قيامة الناس، ولا سيّما رجال الدين، وتحوّل الجميع إلى أطبّاء متضلّعين: مؤامرة على الإنسانيّة هدفها الحدّ من النسل، دواء جديد يتسبّب بالسرطان، علامة من علامات انقضاء الأزمنة. معظم هؤلاء الجهابذة كانوا من الرجال. الموضوع، إذاً، مرتبط بسيكولوجيا القمع لدى الذكور ولا علاقة له بالعلم. والدراسات التي قام بها العلماء بلا كلل طوال عقود أثبتت أنّ لا علاقة بين حبوب منع الحمل والإصابة بالسرطان لدى النساء. الأثر الجانبيّ الوحيد لهذا «الدواء» هو مزيد من الحرّيّة الجنسيّة لدى بنات حواء، والسلام. تستطيع أن تكون مع أو ضدّ. ولكن هذا شيء ونظريّة المؤامرة شيء آخر. القلق حيال دواء جديد مسألة طبيعيّة، والعقاقير الجديدة تحتاج إلى التجربة والاستقراء ومراكمة الخبرات. مرّةً أخرى للتذكير: العلماء والأطبّاء ليسوا الله الآب. هم بشر مثلنا يتعلّمون من التجربة، يخطئون ويصحّحون. لا يقومون بالتجارب على البشر، ولكن لا يمانعون أن يتلقّى المصابون بمرض عضال، إذا كان محكوماً عليهم بالموت، أدويةً تجريبيّةً إذا هم أرادوا ذلك. هذه عبقريّة العقل البشريّ وعبقريّة العلم المنبثق منه. يعترف بمحدوديّته، يجاهر بأنّه لا يعرف كلّ شيء، يخطئ ويصوّب. ويحاول في كلّ هذا أن يحافظ على الكرامة الإنسانيّة على قدر ما أوتي له من فهم. وحدهم أصحاب نظريّات المؤامرة يعرفون كلّ شيء، يفهمون في كلّ شيء، ويتنبّأون بكلّ شيء.
حاولت في الأسابيع الأخيرة أن أقوم بعمليّة إحصائيّة بسيطة للأشرطة الكثيرة التي وصلتني على الواتساب والتي تروّج لنظريّة المؤامرة في ما يختصّ باللقاح ضدّ الكوفيد، وذلك بالنظر إلى مصادرها. لاحظت أنّ معظمها يأتي من أشخاص ينتمون، بطريقة أو بأخرى، إلى العالم العربيّ، علماً بأنّ لديّ، بحكم وجودي في ألمانيا، شبكة علاقات واسعة تتخطّى هذه المنطقة من العالم. يضاف إلى ذلك أنّ هذه «المصادر» تشكّل في معظمها شريحةً تتراوح بين الخمسين والخامسة والسبعين بالنظر إلى المستوى العمريّ. كيف نقرأ دلالات هذه الظاهرة؟ في تقديري، معظم هؤلاء تنشّأوا في حمى فلسفة تربويّة تضطلع فيها نظريّة المؤامرة بدور حاسم: من الكولونياليّة الإمبرياليّة المتآمرة على منطقتنا العربيّة وصولاً إلى المسعى «اليهوديّ» الصهيونيّ لابتلاع كلّ شيء والسيطرة على كلّ شيء. في هذا السياق، تحضرني ثورات الربيع العربيّ. ربّما يكون هذا الربيع في نظر بعضهم خريفاً أو شتاءً. ولكنّ تغيّر المجتمعات فعل تراكميّ. وعبقريّة الربيع العربيّ، التي ستبقيه «ربيعاً» حتّى نهاية الأزمنة، تكمن في أنّ شبابه تحرّروا من نظريّة المؤامرة وقالوا للحكّام الطغاة: المشكلة فيكم، لا في «الغرب» الذي تنسبون إليه أنّه يتآمر علينا. هذا تحوّل نوعيّ في الوعي يبنى عليه. طبعاً لم نصل بعد إلى مرحلة نقد تاريخ الطاغوت في تاريخنا عبر تشريحه وإخضاع كلّ جزيئيّة من جزيئيّاته للمساءلة النقديّة.

في الشرق العربيّ، مثلاُ، تلذّذنا جميعنا بكتاب «صناعة الهولوكوست» لمؤلّفه نورمان فينكلشتاين. تعاطفنا مع الباحث اليهوديّ الذي يفنّد تعامل الصهيونيّة مع المحرقة النازيّة وشعرنا بأنّه يفصح عمّا يعتمل في دواخلنا من أفكار. ولكن لم يكتب أحد منّا حتّى اليوم كتاباً عن كيفيّة استغلال الأنظمة والإيديولوجيّات العربيّة، وحتّى بعض الفلسطينيّين، لقضيّة فلسطين، من تجميع الثروات مروراً بتفلّت السلاح وصولاً إلى قمع الحرّيّات وتقويض الدولة المدنيّة وطرد اليهود من مصر وسوريّا والعراق.

متى يأتي التفكيك البنيويّ لنظريّات المؤامرة التي ما زالت تفتك بنا في الاجتماع والسياسة والدين؟ هذا يحتاج إلى جهد علميّ كثير، وإلى التسليم بمرجعيّة التحليل النقديّ في السياسة والتاريخ والاقتصاد، وإلى الاعتراف بأسبقيّة العقل على النقل وحقّ العقل في مساءلة المنظومات الغيبيّة التي تختزل ازدهار المجتمعات ببركات سوف يغدقها الله على البشر من عليائه على نحو آليّ إذا هم انصرفوا إلى طاعته والامتثال لوصاياه.

(موقع الجزيرة)