جورج طوق - غلب "التطبيع" التطبّع

  • شارك هذا الخبر
Thursday, January 21, 2021

يربط جورج أورويل الاسم التجاري "Victory" للسجائر وكحوليات الجين والمجمّعات السكنية وغيرها، في روايته "١٩٨٤"، برداءة المنتجات بقدر ما يربطه بالبروباغندا والتبشير للحزب الحاكم. سرٌّ ما يجمع بين رداءة الحياة والنصر في ظلّ الأنظمة الشمولية والعقائدية في كلّ زمانٍ ومكان. سرٌّ يصبح مقدّساً عاصياً مع الأنظمة ذات الغشاء الديني، فيجعل حياة المواطنين أكثر رداءة. ليست التركيبة الواقعية للأغشية الدينية هي ما يعطيها وثاقتها. فهي، مثل أحد الأغشية البيولوجية، محاطةٌ بالمحرّمات والأوهام، فيمسي فضّها مسألةً معقّدةً تستوجب كمّاً وافراً من الجرأة والثقافة والتحرّر.

للنظام الجديد، المتغشّى بالله، في لبنان منظومات دفاعية ثلاثية الحوائط؛ اجتماعية/سياسية، عسكريةٌ ودينية، والأخيرة أعلاها. في المقابل، تملك ثورة تشرين ما يكفي من الجرأة والثقافة والتحرّر، وإن لم تنجح حتّى اليوم بتوليفها ثلاثية مطلقة الفعالية للهجوم. يوقن "الأخ الأكبر" والحاكم الفعلي للبنان ذلك، ويحرص على ألّا يتخطّى عدوّه التشريني "نهر الروبيكون" أكثر ممّا يفعله مع باقي خصوم الداخل، أو حتّى مع العدوّ الجنوبي.
لخصوم حزب الله في الداخل هامش محدود من المناورة في التعاطي مع تمويهه الديني، فهم غالباً ما يتلحّفون بالمثل، ناهيك عن تفوّقه السياسي والعسكري عليهم. خصومٌ هزمهم في كلّ المواجهات، ولم يكسرههم. لم يفعل كي لا تنتهي الحرب. ومع العدوّ الجنوبي أيضاً، تكفل ديمومة الحرب ديمومة الحزب. في المواجهتين، يبقى النصر دائماً قاب قوسين. وهنا، قبل خطّ النهاية بقليل، يُطلب الصبر والبصر والبصيرة والعزّة والكرامة والترفّع والصمود. وهنا أيضاً تُبرَّر وتشتدّ وتطول رداءة الحياة. لأقواس الأحزاب المتحكّمة، لا سيّما الإلهية منها، ترف بسط قابها على ما طاب لها من الزمن الرديء. رداءةٌ احتلّت يوميّات اللبنانيين منذ إصدار رواية النصر الإلهي في لبنان، وكلّما اقترب العتيد الموعود، ستخنقهم أكثر. سترتفع مناسيب القلق والخوف والخضوع والإذلال والعنف أمام المخابز والمتاجر ومحطات الوقود والصيدليات والمستشفيات إلى معدّلاتٍ ظلامية. ستزداد البنى التحتية رثاثةً لتصبح البقع المصانة بنُدرة واحات الصحراء، وتمسي واحات التغذية الكهربائية مناسباتٍ سارّة، وتتلوّن مياه الشفّة، إن جرت، بألوانٍ داكنة. سوف يتماهى لبنان أكثر مع توصيفات أورويل لتهاوي وظلام أوسيانيا. ومع النكهة الإلهية للحكم، ستنتشر رسوم الأخ الأكبر أكثر على كامل الواجهة الشرقية للمتوسط لتصبح أكثر إثارةً لرهاب الانغلاق.

ليست هذه ذلك رؤية مستقبلية على غرار نبوءة أورويل، بل واقعاً موصوفاً بات البلد الصغير في خضمّ فصوله.
لن تلوح في الأفق بشائر النصر أو خواتيم الحروب القريبة والبعيدة. لن تتضح للمواطنين هويّة العدوّ وطبيعة تهديداته، فهي ليست من شؤون العامة، كما ليست ما يعطي حكم الأخ الأكبر موجبات الحرب. يبقى الحزب الحاكم في حالة حربٍ ليبقى حزباً حاكماً.
وحدها الحرب مع ثورة تشرين واضحة المعالم والأفق. وحدها عدوٌّ لا يرغب الحزب الحاكم بإطالة المعركة معه، ولن يغلب التطبيع معه التطبّع كما حصل مع غيره من الأعداء. وحدها عدوٌّ يصبو إلى هزيمته الأخ الأكبر وإخوانه وأخواته على السواء. وحدها تدرك أن تعنيف الثوار والفقراء ليس مقاومة، ولا الشرفات حقولاً للجهاد ولا رهن المجوهرات قرضاً حسناً.
وحدها، مهما تعثّرت، تحمل أملاً برفع ضباب "الديستوبيا" عن لبنان.