حياد لا عزلة... اتحاد لا انقسام- بقلم سيروج أبيكيان

  • شارك هذا الخبر
Saturday, October 24, 2020

كتب المحلل والباحث السياسي والاجتماعي سيروج أبيكيان:

بُنيَ لبنان على شكل اتحاد طوائف حيث كانت فكرة الاحزاب غائبة ولم تصل بعد الى هذه الدولة بشكلها المدني الّا بعد ظهور اليسار، فالاحزاب منذ البدء ورغم تتطلعاتها الوطنية كانت طائفية، ولا عيب في ذلك ما دامت تجسد الواقع. من ثمّ بدأ ظهور فكر الاحزاب العابرة للطوائف، ونادت بالمساوات بين الجميع، وهذا مطلب مدني أصلاً ومنصوص بالقوانين اللبنانية وليس بأمرٍ جديدٍ، وهذه الاحزاب هي بدورها ايضاً طائفية. كما هناك احزاب فعلاً غير طائفية تضم منضوين طائفيين وغير طائفيين.

فالشعب اللبناني مكوّن من عدّة شعوب أُطلقت عليها تسمية "طوائف"، وهناك شعوب تمازجت مع أخرى تحت مظلّة الدين وفقدت هويتها وخصوصيتها، فأتت القوانين اللبنانية تعترف بالخصوصيات واحترامها على أسس مدنية ومساواة بين الجميع كونهم يشكلّون ما يسمّى "المواطن اللبناني".

امّا آخر تجديد للقانون اللبناني ودستوره كان وثيقة الوفاق الوطني التي كرّست المناصفة في الحكم وتوزيع الأدوار والمراكز. بما يعني أن أي طائفة تأخذ أكثر من حقّها وأكثر من المخصص لها، أي تكتسب أكثر من حجمها، فتلقائيا هناك في المقابل طائفة أخرى تخسر من حقوقها. وأمّا المشكلة الأبرز هي أن الجميع يريد أن يكون أكبر من حجمه وبالتالي لا يمكنه ذلك الّا بالتسلّط وطمس الآخر، غير آبه أن هذا البلد بني على أساس الشّراكة. كما وقد يكون في السياسة طرف متقدّم على آخر وفق المعطيات والتطورات والعمالة والصداقات الدولية....ولكن دون الالغاء بشتّى أشكاله.

ولكن فعل تعدّي بعض الأحزاب والأطراف السّياسية من خلال الطّائفية والتّدخلات والمصالح الخارجية، أدّت الى بروز أزمات حكم وحروب أهلية حتّى ضمن الطائفة الواحدة، الى أن وصلنا الى واقع فرز الشعب اللبناني مناطقياً وطائفياً وطبقياً بشكله الحالي، وأنتج هذا الفرز فئات جديدة أيضاً، كمن يدفع الضرائب وآخر يتهرّب، فئة تحترم القوانين وأخرى تعتبرها أنّها وُضعَت كي يتم مخالفتها وخرقها، وفئات تحمي نفسها بنفسها على كافة الصّعد منها أمنها وأمنها الغذائي والطبّي ...غير مهتمّة بوجود الدولة، وأخرى تبحث عن الدولة لأن لا حماية لها الّا من خلالها ومن خلال القانون.

جميع هذه الأمور والسياسات المتّبعة والموجّهة لإلغاء الآخر أو تسجيل انتصاراً أو تقدّماً عليه، على سبيل المثال التجنيس العشوائي الذي حصل عام 1994، والتوظيف الغير المتوازن في الدولة، وتغليب التسلّط الطائفي والحزبي على الكفاءة، أدّت الى إضعاف الدولة المركزية وبان للعلن الفيديرالية اللبنانية بشكلها الخاطئ.

وبما أن الأنظمة هي نتيجة تطوّر وضبط واقع الشعب والأرض، لذا وجب علينا تنظيم هذه الفيديرالية وقوننتها وجعلها إتحاداً بدولة مركزية قويّة المركز، واستعادة الهوية اللبنانية المشرذمة، وتنظيم الحياة المدنية، بالتالي ترسيخ الانتماء للوطن لأن الوطن والنظام يصبحان شبيهين للمواطن.

كما والابتعاد من البدع التقسيمية المطروحة حالياً بإسم الطوائف، وبل خلق اتحاداً فعلياً فيما بينها، لا يقضم فيها طرفٌ حقوق الآخر لأسباب في أغلبها تسلّطية وخارجية، يشعر وكأنّه يسجّلُ انتصاراً فيما هو في الحقيقة ينتحر وينحر الوطن.

بالإضافة الى توضيح ما يتم طرحه اليوم "الدولة المدنية"، فإذا كان المقصود تغليب القوانين المدنية على الطائفية، فلا مشكلة أصلاً في ذلك الطرح لأن القوانين اللبنانية هي مدنية ما عدا قوانين الأحوال الشخصية، أمّا اذا كان هذا الطرح يخفي في طيّاته طائفية عددية ومشروع تحكّم وتسلّط، نكون قد عدنا الى الدوّامة الهدّامة نفسها. إن الحفاظ على الجسم سليماً يكون من خلال الحفاظ عليه كاملاً بكافة الأجزاء والأدوار، فلا تستطيع اليد القيام بدور الرِجل ولا العين بإستطاعتها السّمع، ولا نستطيع أن نُلبس الرأس حذاءً ولا الرِجل قبّعةً.....
أمّا خارجياً، المحاور في المنطقة تبدلّت، ومواقف القابضين على السياسة في لبنان تبدلّت أيضاً، وفي ما سبق من مرحلة سياسية، التزم هؤلاء في محاور ونقلوا الخلاف والصراع الى الداخل اللبناني، الى أن أصبحنا في عزلة دولية وفُرض الحصار ووصلنا الى حدّ تجويع الشعب. فأي تمحور جديد سيؤدي في نهاية المطاف الى أزمات جديدة من خلال نفس القابضين ولكن بمواقع أخرى. لذا، وبالأخص في هذه المرحلة على الدولة إتّباع الحياد والإنكفاء نحو الداخل لتنظيمه وتحصينه من التفكك الحاصل، أي العودة الى البيت السياسي الداخلي وهذا ما تريده فرنسا من اللبنانيين، وترتيبه واصلاحه من الفساد. كما تكوين حركة دبلوماسية ناشطة لإعادة بناء العلاقات على مستوى الدولة لا الأشخاص والأحزاب، وبشكل ثنائي من دولة الى دولة تكريساً للحياد والوضوح السياسي، لأن في العادة هناك لبنانَين في المنابر الخارجية.

والحياد هذا لا يمنع البلاد من التدخل في الأمور الإنسانية والمصيرية والوجودية كالمسألة الشرقية، فالحياد ليس بعزلة ولا بعدم إنحياز.

إذاً حان للبنان أن يعي مساوئ المحاور وسلبياته وايجابيات الحياد والعلاقات الواضحة، وكما في الداخل، عليه أن يعي مساوئ وسلبيات الانقسام والتشرذم وإيجابيات تحويل هذا الانقسام الى إتحاد وطني جامع.