خبز التنّور على الحطب: وسيلة للعيش ممزوجة بعبق التراث

  • شارك هذا الخبر
Saturday, October 24, 2020

كتب عيسى يحيى في "نداء الوطن"


بين المحافظة على التراث البعلبكي الذي يميّز القرى والبلدات في البقاع الشمالي، والبحث عن وسيلة عيش توفّر أدنى متطلّبات الحياة في ظلّ الأزمة الخانقة التي يعيشها اللبنانيون، عاد خبز التنّور على الحطب يبرز كإحدى وسائل العمل التي توائم بين التراث وتأمين لقمة العيش.
يقترن الخبز بلقمة العيش المغمسة بالدم في كثيرٍ من الأحيان لصعوبة الحصول عليها في هذه الأيام الصعبة التي تمرّ على اللبنانيين، الذين يبحثون جاهدين عن تأمينها لعائلاتهم وسط الإرتفاع الجنوني للأسعار. غير أنّ خبز التنور بنكهته الخاصة والتي تفوح لعشرات الأمتار، والممزوجة بعبق التراث، أصبح مهنة العديد من الناس ومقصد أبناء المنطقة وزوارها من العاصمة، ليحضر على الترويقة الصباحية التي تجمع كل أنواع المونة القروية.
إلى الوراء در، جملة إعتدنا سماعها للدلالة على الرجوع الى الوراء، غير أنّ الأزمة الإقتصادية الحالية أعادت الناس إلى القديم لإحيائه، كونه السبيل في مواجهة كلّ ما نمرّ به. فبعد عودتهم إلى تموين منازلهم، من حبوب ومونة شتوية وقروية إضافة إلى زراعة الخضار، أعادهم الحديث عن رفع الدعم عن الطحين والمترافق مع رفع سعر ربطة الخبز إلى بدء تحضير الخبز بأيديهم في المنازل، سواء على صاج الغاز والحطب أو على التنور.
لا يكاد يخلو منزلٌ في البقاع الشمالي من الطحين لتحضير الحلويات والخبز والفطائر، غير أن الإقبال على تموين الطحين هذا العام كان أكبر، وفيما يتوفر الخبز العادي والذي يُعدّ في الأفران الآلية، يحسب الناس خطّ العودة في حال رفع الدعم عن الطحين ورفع سعر ربطة الخبز مجدداً. وهنا تجهّزت النساء وتجنّدت لتحضير كلّ ما يلزم، من صاج على الحطب والغاز، أو إعادة إحياء تنّور القرية من جديد الذي يرتبط إسمه بذكريات القرى البقاعية تحسّباً للأيام القادمة. وعلى طول الطريق الدولية من الهرمل حتى رياق، تنتشر عشرات التنانير على الحطب لبيع الخبز الذي أصبح مادةً أساسية تحضر على الموائد، ويقترن إسمه بالعديد من المأكولات والأطباق التي تلاقي رائحة التنّور وتفوح في الأرجاء.
التنّور هو حفرة صغيرة "كجرّة" الفخار تُبنى من الطين والقشّ تتبدّل كل ثلاث سنوات عندما تبدأ بالتشقق، لها فوهة مدوّرة بقطر متر، وتُشعل النيران في قعره ليبدأ بـ"لطخ" قطع العجين المرقوق على جوانبه والذي يتّسع لخمسةٍ منها. وفيما هو اليوم مهنة العديد من الناس حيث يتولّى رجل لطخ العجين على جوانب التنور، وآخر يتولّى رقّ الخبز وتحضيره بعد ان تكون العجنة قد نضجت، لا تزال مقولة "نسوان التنّور" رائجةً في كل مكان وزمان، حيث تجتمع النسوة في القرية على تنّور القرية الوحيد، ليخبزن مداورة، وتناول الترويقة الصباحية وارتشاف القهوة، وتبادل الأحاديث وسرد الأحداث التي تدور في القرية.
أبو علي، صاحب أحد التنانير المنتشرة على طريق شعث، إمتهن صناعة خبز التنّور منذ صغره، واختار هذه المهنة الشاقة والتي يمتزج فيها الرغيف بعرق الجبين للتغلّب على مصاعب الحياة ومشقّاتها، ولتأمين سبل العيش لعائلته، بعدما ترك هذه المهنة لفترة من الزمن. ويشرح علي لـ"نداء الوطن" كيفية صناعة خبز التنّور ويقول: "خبز التنور هو طبيعي من دون اي منكّهات وصحّي، فالعجينة تتمّ بحسب الطريقة التقليدية القديمة التي تحتوي على الطحين والملح والخميرة فقط، والطحين هو طحين قمح مضاف إليه طحين "زيرو"، يوضع في وعاء مخصّص ثم يضاف اليه الملح والخميرة، يُعجن بالماء لمدة نصف ساعة ويُغطّى بقطعة قماش بيضاء، ثم يُترك لأكثر من ثلاث ساعات حتّى يتخمّر العجين ويصبح جاهزاً، بعدها نقوم بـ "تقريص" العجين إلى قطع صغيرة تزن حوالى 200 غرام توضع في صدور خشبية ويُرشّ عليها الطحين الناشف، وتتزامن مرحلة "تقريص" العجين مع تشعيل الحطب في التنّور حتى يحمى جيداً ويصبح الجمر في كعب التنّور جاهزاً، وبعدها يتولّى أحد العمال "رقّ" الخبز وتقديمه للخبّاز الذي يقوم بهلهلة الخبز بين يديه المرنتين ثم يمدّه على "الكارة"(وهي قطع قماش محشوّة بصوف) ويمدّ يده إلى كورة التنّور ويلطّخ الرغيف على جدار التنور حتى ينضج ويحمرّ وجهه فينزعه، ويوضع على طاولةٍ خشبية ليبرد، قبل أن يُعبّأ في أكياس ويصبح جاهزاً للبيع".
"أعطِ خبزك للخبّاز حتى لو أكل نصو"، مقولة تدل على ضرورة وضع العمل بيد من يستحقّه، وخبز التنّور أيضاً له يدان متخصّصتان لخبزه، حيث تعتاش من هذه المهنة عشرات العائلات وتتنعّم أيضاً المئات منها بلذّة طعم الخبز الذي لا مثيل له.