الدكتور محمد إسماعيل صفا- السياسي اللبناني ومكيافيلي: التلميذ الذي فاق أستاذه!

  • شارك هذا الخبر
Thursday, October 1, 2020

الدكتور محمد إسماعيل صفا
الجمهورية


اللعنة التي تلخّص منطق اللبناني هي في إتهامه «الآخر» عند كل مفصل او مفترق طرق. فهو يرى الخطأ في اداء الطبقة السياسية، ولدى البلدان الأجنبية، وفي دول المنطقة، وفي الديانات وفي الأرض كلها... ولا يراها في نفسه أبداً.



هذه اللعنة، هي التي تحجب عنه الرؤية لتحمّل مسؤوليته في الحدث، تمهيداً لتقدير دوره في مسار الأحداث التي تعصف به، وصولاً لإدراك كيفية التغيير نحو الافضل!



ولعلّ هذه اللعنة تعود تاريخياً الى تربيته. فهو تربّى على فكرة انّه، «جينياً»، يعرف كل شيء، وانّه كامل الأوصاف، ولا يحتاج إلى شيء... وبالتالي لا يحتاج الى ان يطوّر نفسه، ولا أن يحاول تغيير ما بنفسه...



اما عندما يتعلق الأمر بأغلبية طبقتنا السياسية، فقد يصح الوصف القائل: «التلميذ فاق أستاذه !». فقد أثبتت التجارب، انّ السياسي اللبناني بشكل عام، هو نموذج التلميذ المبدع لـ «مفكر السياسة الحديثة» نيكولاس مكيافيلي، الذي اعتبر انّ الحكم هو فن إدارة الناس، حتى ولو تمّ «إستعمال الشر» للنجاح في هذه الادارة، لأنّ المهم هو الإحتفاظ بالسلطة... وهذا ما أسماه مكيافيلي بـ «الواقعية»، التي هي رؤية الواقع كما هو، وقراءة الناس كما هم لا كما نودّهم أن يكونوا.





إذاً، الواقعية هي عدم رغبتنا او عدم قدرتنا على فعل الخير. وهذا الغياب للرغبة او للقدرة، هو نتيجة حتمية لنقص فعل «المحبة» تجاه «الآخر»، وأيضاً المحبة تجاه أنفسنا.



نعم، هو نقص في محبة الذات. إذ كيف يمكنني محبة «الآخر»، إذا لم أكن أحب نفسي؟!



المحبة التي أتكلم عنها هي ان تعطي دون ان تنتظر شيئاً بالمقابل، فماذا تنتظر أمّ عندما تُرضع طفلها؟ والمحبة ليست «أحبك إذا كنتَ ...»، فهي ليست عملية مقايضة مشروطة! ولو انّ المقايضة هي أساس العمل التجاري، إلّا أنّها لا تمثل تعريفي لكلمة «المحبة» التي أنشد، حيث رخائي وراحتي، وهناء بالي وفكري تمرّ حكماً «بالآخر»، فتنتج معادلة: «رابح- رابح».



لكن، بالنسبة لمكيافيلي الذي تفوّق تلامذته عليه، لم ينشد مع براغماتيته سوى «النتيجة» (القبض على السلطة)، دون التوقف عند مفهوم «الخير» الذي لا يتناسب مع الطبيعة البشرية. لتصبح صورة المجتمع على الشكل التالي:



- المواطن: قطعان تجذبهم المظاهر وتتحكّم بهم الغرائز، فيرون الشجرة ولا يرون الغابة التي تختبئ خلفها.

- السلطة: برج عظيم من الوهم، فالسلطة تجذب وتوهم المواطن بأنّها تحبه، وتجبره على محبتها من خلال «الترهيب» اي «الخوف على المصير».



أنا اعتذر من مكيافيلي ومن تلامذته، لأنني لم أحب تعاليمه ولم اودّ أداءهم.



لقد تناول الفيلسوف توماس هوبز مفهوم الخوف وتأثيراته وقال، بأنّ الخوف من الموت هو ما يرهب «ويقمع» الإنسان...



وربما يمكننا ان نفهم كيف أنّ الإنسان، وبسبب مخاوفه وقلقه من الموت، أجاز للسلطة صلاحية حمايته.





في المقابل، وللحصول على طاعة الناس، كان لا بدّ لصاحب السلطة بحسب هؤلاء المفكّرين ان يتمتع بمواصفات عدة:



- أن يكون محبوباً، ويعطي الانطباع لشعبه بأنّه يحبهم.

- أن يكون مُهاباً منهم.



وما بين الحب والخوف، يتبين أنّ الخوف هو الأكثر فعالية. فأن تكون مهاباً هو أكثر فعالية من أن تكون محبوباً. لأنّ الخوف من الموت يجعل المواطن أكثر طواعية من المحبة. في الموازاة، تنطلق القاعدة الثانية المبنية على مقولة «معظم الرجال لا يفون بوعودهم، فلماذا يجب على الحاكم أن يفي بها؟»، ليجري تبرير التالي: «يجب على «السياسي» أن لا يفي بوعد يضرّ به، أو تنتفي أسبابه ... ويجب أن يعرف كيف يدخل طريق الواقعية حتى ولو كانت شريرة».



واذا عدنا الى الواقع اللبناني، فما هي العلاقة بين «اللبناني» و«السياسي»؟ ولكن من هو اللبناني؟ هو مجموعات تناقضات في شخصية واحدة، هو ذاك المعتد بنفسه والمتوهم بكمال الاوصاف، المحب للانتصارات السريعة والفردوية، لأنّه يفتقر لحسّ الشراكة، وهو الذي لم تكن لديه استراتيجية مشتركة لأجل «الصالح العام»، فتراه يعيش ويعتاش من خلال شعار «فرّق تسد»، وبطبيعة الحال، من الخوف من «الآخر».



واذا حاولنا ان نفتش عمّا يجمع بين اللبنانيين، اللغة؟ أربع لغات في جملة واحدة! Ciao؟ ça va كم مرة نسمع يومياً: «هاي، كيفك؟»، الرؤية الاستراتيجية: الحلفاء أو الأعداء؟ طبعاً لا، لأنهم مبهمون أو قابلون للتغيير والتلوّن على قاعدة «مين ما اخد أمي بصير عمي».



المعتقد الديني؟

هنا حدّث ولا حرج، مع وجود 18 طائفة بالإضافة إلى العلمانية أو اللاطائفة.

التاريخ والاصول؟



هذه مسألة تحتاج الى الدرس. هم فينيقيون؟ (علماً انّ هذه الشعوب لم تقدّم نفسها يوماً على انّهم الفينيقيون. أطلقوا على أنفسهم صور وصيدا وجبيل وأرواد... ولكن الآخرين، ولا سيما اليونانيين، هم من أطلقوا عليهم اسم الفينيقيين). مع ذلك كل مجموعة من «مختلف» اللبنانيين يعتبرون أنفسهم، من خلال حمضهم النووي، ينتمون الى بلاد ما بين النهرين، او الى العرب، او الأتراك، او الفرس… وبالإيراث العائلي، مسلمين، مسيحيين، دروز…، وبالتقويم والطقوس غربيين أو شرقيين،... وبمكان الولادة لبنانيين أو فرنسيين، كنديين، أميركيين...



إذاً، هناك مشكلة في الهوية اللبنانية، وما دمنا لم نستطع أن نحدّد أو نتفق على هوية اللبناني، فإنّ خطابات السياسيين الموجّهة إلى «اللبنانيين» هي كاذبة من حيث المبدأ.





فهل يجب أن نعود إلى سقراط وفلسفة «إعرف نفسك»؟ للإنصاف والموضوعية، نقول إنّ القادة هم صورة الناس. ولكي يتمكن اللبناني من تغيير قادته وتغيير مصيره عليه ان يبدأ بمساءلة نفسه، اي ان يبدأ من ذاته، ومن تطوير نفسه.



وهذا التغيير يمرّ حكماً بالتربية منذ الصغر، في التربية الوطنية والمدنية، وفي احترام المؤسسات واحترام «الآخر»، لأنّه لا فائدة من الانتقاد، من دون إرادة مشتركة للبناء وللتغيير.



فالتغيير، هذه الكلمة السحرية، هي من أكثر الإجراءات مشقة، لأنّها تنطلق من الذات،... فإذا نظفنا أمام منزلنا، نصل إلى مدينة نظيفة. والتغيير يوجب علينا تقليص نمط الأفكار الأنانية، من خلال وضع أنفسنا مكان «الآخر»، فليس هناك ما هو أصعب من محاولة تجربة مسار «الآخر» وظروف حياته، لتحديد ما يجب أن تسمح به لنفسك أو تنكره على الآخر.



باختصار،



نحن نفتقر إلى الزخم في الرغبة بمحاربة الجهل من أجل اكتساب المعرفة. نفتقر إلى الحب، حب الذات لحب «الآخر»، وهو شرط لا غنى عنه للعيش معاً. وحتى ننجح بإدراك أنّ الـ«أنا» لا وجود لها من دون الـ«أنت»... وانّ «الآخر» هو أخ لك لم تلده امك، وانّ من يفتقر الى المحبة انما هو فقير، فقير للغاية، حتى ولو بدت عليه علامات الثروة والرخاء، حتى يحين ذلك، الوقت قرّرت ان اكون غنياً ليس بما أملك مادياً، أو ما إمتلكت، أو سوف... بل بما أعطي، حالياً والآن، ومستقبلاً.



وتذكّروا: أعطي لأنني أحب...