الصندوق لم يبدّل .. هل بدّل ماكرون؟

  • شارك هذا الخبر
Friday, August 14, 2020

مشى حسّان دياب. ترك أسوأ من تركة سلفه سعد الحريري الذي دأب دياب على ردحها طيلة شهور في السراي. ولم يبرح هذا الخطاب المملّ حتى في كتاب استقالته. يكفي أن شهد لبنان في حقبة دياب ما لم يشهده في مئويته. انهيار مالي ونقدي واقتصادي. توقف عن سداد التزاماته الخارجية. تبخّر ودائع اللبنانيين. ودمار وسط العاصمة ومحيطها الأقرب. هذا ليس من صنع حكومتك حسّان دياب. هو صنيعة حكومات سابقة سُميت حكومات وفاق وطني. لكنّك وقد ارتضيت التركة، فلم تفعل شيئًا سوى تفجيرها مرّة واحدة. جائحة كورونا كونية لا شأن لك بها. حطّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بسرعة البرق في بيروت منعًا لانهيار البلد في الفوضى. هبّت الدول العربية ودول أخرى كثيرة في العالم لنجدة لبنان انسانيًا وماليًا. وشرط الدعم توزيعه مباشرة على الناس بواسطة المتطوعين والمجتمع الأهلي. أسمعنا ماكرون كلامًا كبيرًا عن التغيير والتزامه بما يقوله الشعب في الشارع. وفتح باب تأليف حكومة جديدة بالتنسيق المباشر مع واشنطن المشغولة بالانتخابات الأميركية من دون أن تتخلّى عن موقفها من "حزب الله" وطهران. وعادت إلى الواجهة قضية ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني. وأُفهمنا في مؤتمر دعم لبنان أنّ القديم على حاله في ما يتعلّق بالانقاذ المالي والاقتصادي: "الإصلاحات قبل كل شيء".

موقف ماكرون؟
فجأة، عادت لعبة تأليف الحكومة إلى سابق عهدها. الخلافات الكبيرة على إظهار الحقيقة في انفجار مرفأ بيروت، ومعالجة تداعياته الهائلة انسانيًا واقتصاديًا، واستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي على وجه السرعة، انكشفت عن محاولات جديدة لتموضع القوى السياسية في حكومة تشبه ما سُمي حكومات الوفاق الوطني. والعين على الشارع وثورة الشعب الكفيلة بجمع كل الأضداد دفاعًا عن مصالحهم. لا أحد من أحزاب السلطة مستعد لتقديم تنازلات للشارع والناس. تصعيد القمع إلى مرحلة بالغة الخطورة ينذر بعواقب وخيمة. ماكرون الذي طالب بالتغيير يبدو إنّه قابلٌ بعودة حكومة من السياسيين التقليديين الذين يرفضون الإصلاحات. الأمر الذي يتعارض مع مواقفه الأخيرة في بيروت. حكومة سعد الحريري التي استقالت تحت ضغط الشارع، ولحقت بها حكومة دياب، لن ترثها حكومة أخرى من المنظومة نفسها ويقبل الشارع بها. لو تمّ فرضها بالأمر الواقع وحماقة السلطة السياسية لتصعيد القمع بديلًا للإصلاحات ومطالب الشعب كما يحصل، لدخلت البلاد في منعطف مجهول.

الرئيس الفرنسي الذي ذكّر اللبنانيين الذين احتشدوا لاستقباله بالأحضان في الجمّيزة ومنطقة مار مخايل بأنّه رئيس فرنسا وليس رئيس لبنان. بيد أنّه قال أن لا ثقة للشعب بالسلطة السياسية. لكنّه يحاول الآن حفز القوى السياسية المسؤولة عن الانهيار والزلزال الذي ضرب العاصمة تأليف حكومة. أي القوى نفسها التي وصفها ماكرون جهارة إنّها فاسدة وتعوق الإصلاح، ولا يليق بها صفة وديع المساعدات لشعبها في ظروف الكوارث.

ما حصل في مرفأ بيروت ليس كارثة طبيعية. ولا تسونامي بعوامل المناخ. بل كارثة يدوية بامتياز لا تقبل الجدل. صنيعة السلطة السياسية الفاجرة المعتدية الخائنة شعبها والمجرمة. وتشاء الظروف أنّ يكون مرفأ موقع الكارثة. فالمرفأ يختزل زبائنية هذه السلطة على نحو مريع. "كلّن يعني كلّن".. كلّهم هناك في المرفأ. وزارة الأشغال العامّة والنقل. وزارة الطاقة والمياه. وزارة المال. الجمارك والأجهزة الأمنية على اختلافها. ولجنة إدارة موقتة منذ عقود. ومع ذلك ليس من مسؤول عن هذه الفاجعة. إدارة المرفأ ليست مؤسسة عامّة بتوصيف القانون. تكلف الاقتصاد والأعمال ضريبة بلا قانون. وتنفق المليارات على هواها بلا رقابة. وتحوّل إلى الخزانة بحسب ما يحلو لها. وفي المرفأ القطاع الخاص وتجّار مال القبّان الدسمين. وأصحاب الوكالات التجارية الحصرية. وكل القومسيونجية والسماسرة. وبلطجية التشبيح والعسس وسقط المتاع.. فخيرات البحر وفيرة يستحصّها الجميع ويتناوبون عليها. كل دائرة في مرفأ بيروت سندها واحدٌ من النظام الزبائني.

رئيس الجمهورية ميشال عون يرفض التحقيق الدولي بكارثة المرفأ. ألف سؤال وسؤال يلفها الغموض في ما حصل. أي سيادة لدولة هدمت مؤسساتها الدستورية والقضائية، وتسولّت باسم الشعب اللبناني، واستهانت بالإنسان؟ وكأن بقي لدينا بلديًا وسياديًا سوى الشنكليش والفراكة.. استجداء المال من الخارج مرحّب به. وتقريع الحاكم والسلطة والحكومة مقبول. إلّا التحقيق والحقيقة. وزيرة العدل في الحكومة المستقيلة لا تريد أن ترحل بسلام. لم يكفها ما قامت به لعرقلة التشكيلات القضائية الحبيسة في رئاسة الجمهورية. ربّما هذا واحد من إنجازات حكومة دياب التي تحدث عنها. وقد بدا منزوع السلاح في هذه القضية. إذا كانت بواكير التحقيق المحلي هذه هي. فكيف الخواتيم؟

من المفارقات أن ما أثار عقيرة رئيس مجلس النواب وغضبه على دياب دعوة الثاني إلى جلسة لمجلس الوزراء يتقرر فيها مشروع قانون تقصير ولاية مجلس النواب واجراء انتخابات مبكرة. ونقل عن برّي إنه استشاط غضبًا لتجاوز مجلس النوّاب وقرر جلسات مفتوحة لمساءلة الحكومة. لكن دياب قام بالمبادرة وسط غياب لمجلس النواب. باستثناء حملة مبرمجة للجنة المال والموازنة لإحباط ورقة الحكومة للتعافي المالي. وخفض الخسائر لتحميلها للمودعين، وللمواطنين عموماً من خلال صندوق يستثمر في أصول الدولة. لا بديل من انتخابات نيابية مبكرة لاستعادة سلطة الشعب. وضرورة تعديل قانون الانتخاب على أساس المواطنة لا الطائفة ولا المذهب. وخفض سن الاقتراع إلى 18. هذا جيل لبنان المقصي عن المشاركة في الحياة السياسية. لو كان رئيس المجلس يريد حقًا قانونًا مدنيًا ليشرع به على الفور. لديه أكثرية برلمانية مع "حزب الله" والعونيين.

أصلحوا!
لا، لم يقم مجلس النوّاب بواجباته في الأزمة المالية. سنعود للتّو إلى صندوق النقد الدولي. بعد أن عبّرت مديرته العامة كريستينا جورجيفا في مؤتمر دعم لبنان الأخير عن موقف علني مرّة أولى. قالت إنّ "الذين سبق واستفادوا من العائدات المفرطة في السابق يجب أن يتشاركوا أعباء إعادة رسملة المصارف لضمان حماية مدخرات الغالبية العظمى من المودعين. وينبغي وضع ضمانات وقائية موقتة لاجتناب استمرار خروج رؤوس الأموال الذي يمكن أن يزيد من ضعف النظام المالي خلال فترة ترسخ الإصلاحات المطلوبة. ويشمل هذا إقرار قانون يشرع ضوابط رأس المال في النظام المصرفي ويلغي نظام سعر الصرف المتعدد القائم حاليًا".

الصندوق بات يتشدّد في قضية التحقيق الجنائي خصوصًا في مصرف لبنان. طالبت جورجيفا أيضًا بإرساء شبكة موسعة للأمان الاجتماعي "لحماية فئات الشعب اللبناني الأكثر هشاشة. فلا يجب أن يُطلَب من هذه الفئات أن تتحمل تبعات الأثر المدمر لهذه الأزمة". وأنهت بأن الإصلاحات ستحرر ما وصفته "مليارات الدولارات الأميركية لمصلحة الشعب اللبناني. هذه هي اللحظة التي يتعين فيها على صانعي السياسات اللبنانيين أن يقوموا بتحرك حاسم. والصندوق على استعداد للمساعدة".


المدن