أحمد جابر- فوضى الحكم وفوضوية المعارضة

  • شارك هذا الخبر
Thursday, July 9, 2020

لا حكم في لبنان. الحكم مظاهر وآليات وبرامج وعلاقات، فإذا غاب كل ذلك غاب معنى الحكم. بالتوازي لا سلطة في لبنان. للسلطة قوانين تضبط أداءها، وقوانين تنضبط القوة السلطوية ضمن حدودها، ثم تضبط بواسطة إنفاذ هذه القوانين، المجتمع المنوط بها ضبطه.
تحول الحكم إلى تحكُّم، يحمل الاستنسابية والضغط والإكراه. انتقال السلطة من ممارسة التفويض المعطى لها شعبياً، إلى التسلّط على الشعب الذي أعطاها التفويض، يجعلها قوة استبداد وقمع، مثلما يجعلها مرجعية لتعطيل القانون والدستور، أي قوّة قاهرة لاستواء الحياة الوطنية العامة، في مقام منع سلاستها وطبيعيتها. اللاحكم واللاسلطة، هما سمات الإدارة الرسمية اللبنانية، وهاتان السمتان يمكن دمجهما في كلمة الفوضى، فهذه قد تكون الشرح الأفضل، لما هو عليه واقع الأحوال الرسمية اللبنانية.

فوضى في لحظة فوضوية
ينصرف أقطاب وقوى تشكيلة اللاحكم إلى يومياتهم مزوّدين بحمولة الخصومة والمناكفات، ومثقلين بحسابات المحاصّة الفئوية، وواضعين نصب "تفكيرهم" غايات الكيدية والثأرية والإقصاء. هكذا انصراف يعادل "ترف" ممارسة السياسة، وليس تنكبّ مسؤولية السياسة، وهكذا سلوك لا مسؤول، يزخر بصبيانية سياسية، وبأحابيل بينية، تجعل مساحات "الدولة" ملاعب تعجّ بمتدخلين من داخل ومن خارج، وتفسح مجال المشاركة أمام من يجيد اللعب بانتظام، وأمام من يركض على غير هدى. هذا الأخير هو اللاعب الذي يساهم في إشاعة الفوضى وفي تعميمها، من دون أن يكون صانعاً لها، أو مدركاً لأبعادها، أما اللاعب الأول فهو ذاك الذي يدير خيوط اللعبة، ويتابع سير فوضاها بانتظام، ودائماً وفق المخطط الفوضوي الذي اعتنى بإعداده. على سبيل التصنيف، حكم الداخل والتشكيلة المتحكمة، يسهمون في إشاعة الفوضى، والخارج الدولي والإقليمي، يحيط الفوضى اللبنانية بفوضوية تضج بها ساحات "الشرق الأوسط الكبير"، وتصل أصداؤها إلى الشرق الأقصى وسواه، ما ينذر بإشعال حقول السياسة الشاسعة. عودٌ إلى مسؤولية الداخل، فهذا لا يظهر حساسية حيال الأخطار القريبة والبعيدة، ويستسهل اختيار حلفائه الكثر، وفقاً لحساباته الفئوية الكثيرة، والحال، أن الصراع الفوضوي المندلع حول فوضى لبنان الداخلية، سيرتد خسائر صافية على اللبنانيين، في حالة التجاذبات الحامية الراهنة، وفي حالة وصول التجاذبات إيّاها، إلى تسويات قسمة مصالح باردة، لاحقاً.

فوضوية المعارضة
ما زالت كلمة معارضة تَرِد مع كل التحفظ الضروري المحيط بها، هذا لأن الحالة الشعبية اللبنانية لم تتبلور في إطار معارض جبهوي عريض، له برنامج محدد، ورؤى سياسية محددة، وإطار قيادي يدير سياساته ويومياته. تذهب العناية إلى هذه المعارضة، وليس إلى معارضة الحكم من داخله، فهذه تتشكل من أبناء السياسات المتشابهة وهؤلاء هم المسؤولون، مع غيرهم، عن الدرك الذي وصلت إلى الأوضاع اللبنانية. إذن، عودٌ إلى الشارع حيث لا وجود لمعارضة، فالحشود التي ملأت الساحات ظلَّت أعداداً هائمة بين شعاراتها، وتائهة بين أمانيها ورغباتها. لم تنتج الدينامية الشعبية أطراً تنتظم ضمنها، ولم يبرز من بين صفوفها من يشذِّب "أغصان" انفلاتها، ولم يطلع من يوميات الحشد برنامج يدقق في أولوياتها. جرى الشارع مدفوعاً بدفق التلقائية، وتبرع حشد من الجمعاتيين بمباركة هذه التلقائية، مثلما عمدت الأحزاب إلى تمجيد العفوية، فاختبأت مع عجزها خلفها، ثم أطلَّت من بين الصفوف الخلفية لتتقدم إلى الطليعة، شاهرة العديد من شعاراتها البالية.

في حصيلة أولى، وقعت إرهاصات المعارضة الشعبية في وهدة التشتت، ثم ذهبت إلى التفكك، ثم صارت مجموعات متناثرة تنزل إلى الشارع بكلام التكرار، وتحيد عن عنوان الحركة الشعبية بعناوين مرتجلة، وبعشوائية مصطنعة ومفتعلة. أما الحصيلة الثانية، فتمثلت في تراجع الشعور الجمعي إلى حالة الشعور الفردي، ثم الشخصاني، بحيث صار الهاجس مجرد الحركة التي تدل على وجود هذه الجماعة، أو هذا الحزب، وصار دبيب الأقدام، والصراخ بالهتافات، دليل على الوجود البيولوجي، من دون إضافات إجتماعية.