السادس مــن تمــــوز 1949... ولحــــظـــــات الخيانة الكبرى ... بقلم د. ميلاد سبعلي

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, July 8, 2020

د. ميلاد سبعلي
الديار

الساعة العاشرة صباحا، المقدم ابراهيم الحسيني المكلف من قبل رئيس الجمهورية السورية حسني الزعيم بمتابعة التواصل مع الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه انطون سعادة، يبلغ منفذ عام دمشق عصام المحايري بموعد بين رئيس الجمهورية وسعادة، الساعة العاشرة من مساء ذلك اليوم في القصر الجمهوري. وسيقوم الحسيني شخصيا باصطحاب سعادة من بيت معروف صعب.

كانت الشكوك تحوم حول امتناع حسني الزعيم عن تحديد موعد لسعادة منذ انتخابه رئيسا للجمهورية في 26 حزيران 1949. وخاصة بعد ان عين حسني الزعيم في 1 تموز محسن البرازي، قريب رياض الصلح، رئيسا للوزراء في الشام. وبدأت التضييقات تطال تنقلات القوميين وعائلاتهم.

وكان سعادة قد اعلن الثورة على الحكومة اللبنانية قبل ذلك بيومين، وفي صباح ذلك اليوم السادس من تموز، كانت قد وصلته اخبار فشل عمليات مشغرة والبقاع الغربي ومقتل قائد القوات القومية الصدر عساف كرم.

وكان اكثر من شخص حذروه من غدر حسني الزعيم، ومنهم رئيس الوزراء الاسبق فارس الخوري، وحتى زوجته الامينة الاولى.

دعا سعادة فور تبلغه الموعد الى اجتماع حضره 4 وكلاء عمد كانوا على تواصل مباشر معه، وكان قد عينهم قبل ايام، حيث انه كان قد حل مجلس العمد والمجلس الاعلى سابقا. والوكلاء هم معروف صعب، عصام المحايري، الياس جرجي قنيزح وعبدالله محسن. ابدى صعب والمحايري ترحيبهم باللقاء مع رئيس الجمهورية، مراهنين ان سعادة قادر على اقناعه بتصليب موقفه. فيما ابدى قنيزح ومحسن توجسهما من هذه الدعوة. ختم سعادة الاجتماع بعد ان استمع الى كل الاراء وابلغهم انه سيدرس الوضع ويتخذ القرار المناسب.

طلب من سائقه ان يجهز السيارة ويملأ خزانها بالبنزين ويملأ وعاء اضافيا كونهما سيسافران في رحلة طويلة. وبعد فترة وجيزة، انطلقا جنوبا باتجاه درعا. قرابة الرابعة بعد الظهر، وعند الوصول الى مشارف درعا، طلب سعادة من مرافقه العودة الى دمشق. هل كان ينوي الذهاب الى الاردن؟ ام الى وادي السرحان الذي كان منطقة ممنوعة على الجيشين الاردني والسعودي، تحكمها قبيلة الرولة ورئيسها الشيخ فواز الشعلان الذي يقال انه تعرف الى سعادة في دمشق ودعاه الى وادي السرحان، حيث لجأ سلطان باشا الاطرش والثوار لمدة سبع سنوات... لكن الوصول الى وادي السرحان يتطلب المرور على الحدود الاردنية مرتين. وهذا قد يعرض سعادة للاعتقال، خاصة وانه اعلن ثورة علنية في لبنان. هل فضل سعادة العودة ومحاولة اقناع حسني الزعيم في دمشق، الذي كان قد ابدى اعجابه بسعادة، واهداه مسدسه العسكري، برغم الشكوك التي تحوم حوله، عوض المخاطرة بعبور الاردن وامكان التعرض للاعتقال والتسليم الى الحكومة اللبنانية؟

عاد سعادة الى دمشق ووصل مساء الى منزل معروف صعب. وابلغه انه سينتظر مجيء الحسيني قرابة العاشرة مساء.

لم يطلب سعادة لقاء زوجته التي كانت قد التقته قبل ثلاثة ايام في دمشق وطلبت منه الرحيل وعدم الثقة بحسني الزعيم. هل انه لم يلتقها بسبب موقفها الذي سيكون معارضا او ربما رافضا لذهابه الى موعد القصر الجمهوري؟ هل كان سعادة، كما يقول البعض، متيقنا انه ذاهب الى مصيره المحتوم، خلال ساعات انتظاره الموعد في ذلك المساء؟ وان كان كذلك، فلماذا لم يطلب مشاهدة زوجته وبناته للمرة الاخيرة قبل الذهاب، كما طالب بعد 24 ساعة في بيروت؟ ام انه كان يستبعد خيانة حسني الزعيم، ولم يتيقن من مصيره الا بعد ان اعتقل وتم تسليمه الى الامن اللبناني، كما يذكر سعيد تقي الدين في ايقونته الخالدة: «حدثني الكاهن الذي عرفه»...

عندما وصل الحسيني في سيارة عسكرية يقودها شخصيا قبيل العاشرة مساء، صعد سعادة الى المقعد الامامي بجنب السائق، وحاول مرافقه الصعود في الخلف، فطلب منه الحسيني ان ينتظر سعادة حتى عودته. اصر المرافق. طيب سعادة خاطره وطلب منه البقاء في منزل معروف صعب حتى عودته.

انطلقت السيارة العسكرية باتجاه القصر الجمهوري. وما ان ترجل منها سعادة حتى اعتقلته المخابرات السورية، دون ان يتسنى له لقاء رئيس الجمهورية، او ربما دون ان يتجرأ رئيس الجمهورية على لقائه. عندها عرف سعادة ان الخيانة قد حصلت. ابقته المخابرات معتقلا في احدى غرف القصر الجمهوري قرابة الساعتين، ثم تم نقله في سيارة مدنية ترافقها سيارتان مدنيتان مع اكثر من 10 عناصر من المخابرات الشامية الى الحدود اللبنانية، حيث تم تسليمه الى مدير عام الامن العام اللبناني. كانت الساعة قاربت الثانية والنصف من صباح 7 تموز...

كانت التعليمات من رياض الصلح بتصفية سعادة على الطريق بحجة انه حاول الهروب. فيما نفض حسني الزعيم واجهزته يدهم من الموضوع وسوقوا لاحقا ان سعادة اعتقل داخل الاراضي اللبنانية من قبل الامن اللبناني، وانكروا بالتالي قصة تسليمه.

وصل سعادة المعتقل الى بيروت قرابة الخامسة من صباح 7 تموز. ارتبكت السلطة. تم التحقيق معه على عجل صباح ذلك اليوم، وانعقدت المحكمة ظهرا. حاول سعادة تعيين بعض المع المحامين، مثل اميل لحود، الذي طلب مهلة 48 ساعة لدرس الملف فرفض طلبه. فقال لسعادة انه يشتم رائحة غير نظيفة. فطلب سعادة منه البقاء لتسجيل ما سيحصل. لكنه اصر على الاعتذار. كل ذلك خلال ساعات ظهر السابع من تموز. بدأت المحاكمة. دافع سعادة عن نفسه لفترة بعد الظهر. وارسل الى سجن الرمل. قررت المحكمة حكم الاعدام في نهاية تلك الجلسة اليتيمة من بعد ظهر ذلك اليوم.

الملازم اول الياس رزق الله الذي عينته المحكمة للدفاع عن سعادة، وهو لم يكن متمرسا في هكذا قضايا، حاول قدر المستطاع تأجيل النتيجة الحتمية. فطالب في بداية المحاكمة نقل سعادة الى المستشفى للكشف عن حالته النفسية والعقلية. فنهره سعادة وقام هو بالدفاع عن نفسه. وعند صدور الحكم، قدم رزق الله طلبا الى لجنة العفو فوراً يطلب منها العفو عن سعادة.

طلب رئيس الجمهورية بشارة الخوري من رئيس لجنة العفو القاضي المعروف اميل التيان ان يجمع لجنة العفو فورا في القصر الجمهوري لرفض طلب العفو عن سعادة، اي مساء 7 تموز. رفض القاضي التيان طلب رئيس الجمهورية قائلا انه هو من يقرر زمان ومكان جمع لجنة العفو، وهو لن يجمعها الا في قصر العدل. وترك القصر الجمهوري غاضبا. عندها طلب الخوري الى نائب رئيس لجنة العفو القاضي يوسف شربل، مدعي عام التمييز الذي حضر محاكمة سعادة وكان بذيئا وحاقدا. فجمع لجنة العفو تلك الليلة وحرص ان يصدر قرار الرفض قبل منتصف الليل كي يتم التنفيذ في اليوم التالي.

طلب من وزير الدفاع تنفيذ الحكم بالتاريخ الذي يراه مناسبا. لكن ذلك كان اجراء شكليا. فالقرار متخذ سلفا وبأسرع وقت.

تم الاتيان بالاب الياس البرباري بعد منتصف الليل ليعرّف سعادة. حوالي الساعة الثانية من فجر الثامن من تموز، ايقظوا سعادة في سجن الرمل، وابلغوه ان لجنة العفو رفضت الطلب، وان الاعدام سينفذ فورا. ابتسم وواجه الاعدام ببطولة نادرة، بعد ان طلب رؤية زوجته وبناته لثلاث مرات، وكان الجواب ان ذلك مستحيل. بكى الكاهن والضباط فيما هو مبتسم يواجه مصيره برباطة جأش قل نظيرها في التاريخ، ويقول لجلاديه شكرا.

وقد قام الاديب سعيد تقي الدين بتسجيل وقائع تلك الليلة عن لسان الكاهن الذي عرّفه، بأسلوب قصصي فريد يرقى الى سير القديسين والأنبياء، ويظهر سعادة على حقيقته الباهرة ليس فقط كمفكر عريق، بل كقائد شجاع واب حنون وثائر بطل.

نُفِّذ الاعدام قرابة الساعة الثالثة من صباح الثامن من تموز. اي بعد اقل من 9 ساعات من صدور الحكم. او اقل من 15 ساعة من بدء المحاكمة. او بعد حوالي 24 ساعة من وقت استلام سعادة المعتقل على الحدود من المخابرات السورية.

كان ذلك الاعدام وما زال اسوأ نقطة سوداء على صفحة القضاء اللبناني والحياة السياسية في لبنان والشام على مدى مئة عام. مهما قارنّا جميع الاعتقالات السياسية التي وصفت بالكيدية والتجني، من اعتقالات المكتب الثاني بعد انقلاب 1962، الى اعتقال جعجع الى الضباط الاربعة في لبنان، الى اعتقالات المزة وغيرها في الشام... جميعها ليست نقطة ببحر التخلص من مفكر وقائد تاريخي بوزن انطون سعادة بهذه الطريقة الاجرامية وهذه السرعة الجنونية.

كان حسني الزعيم قد التقى موشي شاريت، الذي طلب منه تسليم سعادة الى لبنان حيث سيتكفل اصدقاء شاريت بالتخلص منه.

في 14 اب 1949، اي بعد حوالي شهر ونيف، قام عدد من الضباط القوميين في الشام بإعدام حسني الزعيم ورئيس حكومته محسن البرازي بعد انقلاب عسكري ومحاكمة ميدانية... وعندما ضعف محسن البرازي صفعه الضابط فضل الله ابو منصور قائلا له: سعادة واجه الموت ببطولة يا ...

من يومها ادرك رياض الصلح ان أيامه باتت معدودة. حاول نيل السماح من القوميين متنصلا من مسؤوليته في اغتيال سعادة. عاش مرعوبا كل تلك الفترة، يقض مضجعه كابوس تصفيته من قبل القوميين، وتنوء رقبته بدم سعادة الشهيد.

في 16 تموز 1951، وخلال عودته من عمان الى المطار ليعود الى بيروت، تجاوزت موكبه سيارة فيها 3 قوميين، وصلوا الى سيارة الصلح، واطلق ميشال الديك عليه النار قائلا خذها من يد سعادة. فأرداه على الفور. لاحقا استشهد ميشال ورفيق اخر اسمه محمد الصلاحي، فيما استطاع الرفيق الثالث سبيرو وديع الفرار الى دمشق ومنها الى البرازيل. وكان توفيق رافع حمدان قد اطلق النار قبلها على رياض الصلح في بيروت لكن العدالة روكبت ونجا حينها.

في 6 شباط 1954، اطلق الشاب حسين الشيخ النار على القاضي يوسف شربل. فأصابه بشلل مدى الحياة.

بشارة الخوري مات غير مقتول، لكنه بعد تصفية شريكه الصلح، عاش سنوات من الرعب وكان يتمنى الموت في كل لحظة...

كل هذه الردود قد تكون روت غليل ذلك الجيل، الذي عاصر سعادة. وهذا ما يحصل عندما يسود الاستبداد ويضرب بالقانون عرض الحائط، فتتخلص حفنة العملاء والمأجورين بطريقة اجرامية من شخصية تاريخية مثل انطون سعادة وهو في الخامسة والاربعين من عمره، في عز عطائه.

لكننا بعد سبعين عاما ونيف، وبعد كل المآسي التي مرت بها المنطقة والامة والنهضة، نقف متأملين اي جريمة قد ارتكبوا، اولئك المتواطئين من دمشق الى بيروت... واي خساسة وخفة وحقد وانحطاط قيمي تعاطت بها مؤسسات الدولة في سورية ولبنان... لا تمحوها السنين ولا الاجيال تنساها... انما قد يخفف من وقعها اعتذار الدولتين من سعادة ونهضته، برغم تغير الانظمة والعهود... اعتذار علني لا لبس فيه، دون قيد او شرط.

في هذه اللحظات من مساء السادس من تموز كل عام، نستذكر اولى لحظات الخيانة الكبرى، في العاشرة من مساء السادس من تموز 1949...