نبيل هيثم- بين «حزب الله» وواشنطن.. ماذا يريد العونيون؟

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, June 3, 2020

نبيل هيثم
الجمهورية

ماذا يريد العونيون؟ سؤال يتردّد منذ سنوات طويلة، ولعلّ جذوره تعود إلى فترة تشكّل الحالة العونية في الثمانينيات، وما رافقها من عناوين سيادية وشعبية، ومحطات دامية، من حرب للتحرير، وأخرى للإلغاء، ورفض لاتفاق الطائف على مدار أكثر من 15 عاماً، قبل أن تملي المتغيّرات الاقليمية، وانعكاساتها اللبنانية، العودة إلى النهج المنطقي، المتمثل في الشراكة الوطنية.

بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وانسحاب الجيش السوري من لبنان، بدا وكأنّ الحالة العونية قد دخلت في مرحلة جديدة، طوت من خلالها كل إرهاصات الماضي، من خلال الانخراط الجاد في الحياة السياسية، ونسج التحالفات الوطنية، والتي كان أهمها على الإطلاق وثيقة التفاهم الموقّعة بين العماد ميشال عون والسيد حسن نصرالله في كنيسة مار مخايل.



بذلك، تخلّى العونيون عمّا سُمّيت «مغامرات» الثمانينيات والتسعينيات، والتي بلغت ذروتها في الرهان على القرار 1559، باعتبار أّن حيثياته قد تحققت بنهاية حقبة الوصاية السورية، وبالتالي سلوك كافة الأفرقاء مسار الحلول الداخلية للأزمات القائمة، بالحدّ الأدنى، وإن كان عامل الخارج لا يمكن إغفاله في بلد مثل لبنان.

كانت المشكلة الحقيقية، أنّ العونيين غرقوا في التركيبة التحاصصية، بالقدر الذي لم يعد يسمح لهم بالذهاب بعيداً في شعار التغيير والإصلاح الذي رفعوه، والذي اصطدم بواقع غرقهم في اللعبة السياسية، المدفوعة بالطموحات الرئاسية للعماد ميشال عون، وبالاستثمار السياسي الذي بات نهجاً عاماً في البلاد لا يمكن أن يختلط بأية طروحات إصلاحية.



طوال السنوات العشر التي تلت «تفاهم مار مخايل»، كان مفهوماً أن تقود الطموحات الرئاسية - المشروعة - إلى تسويات متعدّدة الأوجه، من «تفاهم معراب» مع «القوات اللبنانية» إلى التسوية الرئاسية مع سعد الحريري، طالما أنّ اللعبة السياسية في بلد مثل لبنان تفرض مثل هذا السلوك في السياسة.



كان المأمول بعد ذلك، أي بعد انتخاب رئيس الجمهورية، أن تكون حقبة التسويات قد انتهت، أو على الأقل أن تكون إدارتها منسجمة تماماً مع مضمون خطاب القسم، بكل عناوينه السيادية والوطنية والإصلاحية، لتحقيق الشعار العوني الجديد - لبنان القوي.



لكنّ ذلك لم يتحقق، فالطموحات الرئاسية باتت مجدداً المحرّك الرئيس في عمل العونيين، بعدما انتقلت من العماد عون إلى صهره جبران باسيل، وهو ما ساهم - الى جانب عوامل أخرى لا يمكن بطبيعة الحال تحميل تبعاتها للتيار الوطني الحر وحده - في العودة إلى مربّع ما قبل انتخابات العام 2016.



حتى الانتفاضة الشعبية، التي خرج فيها المواطنون للتعبير عن إحباطهم من السياسات الاقتصادية- الاجتماعية، وحتى دخول لبنان في عاصفة الانهيار الاقتصادي، لم يغيّرا من السياسة العونية، التي تتسمّ بكونها خليطاً من الانكار والكبرياء - او الاستكبار، على حدّ توصيف خصومهم - مضافاً إليها نزعة تأصّلت مع دخولهم اللعبة السياسية لتقاسم الكعكة اللبنانية، مع فارق جديد، وخطير في آن، وهو الخروج عن قواعد تقاسم الكعكة نفسها، طمعاً بالمزيد منها.



هذا ما يفسّر الكثير من السياسات الاقتصادية التي انتهجها العونيون منذ سنوات، وأهمها في ملف الطاقة، والتي ما زالت على حالها، برغم تآكل الكعكة اللبنانية، بفعل الأزمة الاقتصادية - المالية القائمة اليوم، وتجعل مشروعاً كمعمل سلعاتا، أحد أدوات تحريك الأزمات السياسية، التي لم يعد لبنان يتحمّل ولو نذر قليل جداً منها في وضعه الحالي.

الأخطر مما سبق، أنّ ثمة ميلاً عونياً اليوم للعودة إلى ما قبل المربّع الأول، أي ما قبل العام 2006، يتبدّى اليوم في أصوات - يحاولون وسمها بأنّها غير رسمية أو غير قيادية - تمسّ بالتفاهمات التي كان يُفترض أن تكون استراتيجية، ولا سيما في ما يخصّ منها العلاقة مع «حزب الله»، التي اتخذت خلال الأيام القليلة الماضية أشكالاً متعددة من التصريحات، طالت حتى موضوع سلاح المقاومة.



ثمة ما يدعو إلى القلق في مواقف كهذه، في ظلّ الاستحقاقات الخارجية التي باتت تطلّ في أفق السياسة اللبنانية، وأهمها التلويح الأميركي المباشر بفرض مزيد من العقوبات على «حزب الله» وحلفائه، ناهيك عن «قانون قيصر» لفرض حصار اقتصادي على سوريا، الذي دخل عملياً حيّز التنفيذ، بالامس، بما يتضمنه من ضغط نفسي وفعلي على اللبنانيين الذين باتوا، بحكم العلاقة مع سوريا، معرّضين نظرياً في أي وقت لأن يصبح اسمهم مدرجاً على اللائحة السوداء لوزارة الخزانة الأميركية.



هذا ما يفسّر إلى حدّ كبير المواقف الأخيرة لقياديي التيار الوطني الحر، والتي تبدو محاولة «جدّية» للتمايز عن «حزب الله»، وبالتالي الابتعاد قدر الإمكان عن دائرة الاستهداف الاميركي.



لكنّ ما سبق قد لا يكون كافياً بالنسبة إلى الأميركيين، فإدارة دونالد ترامب، مع قرب الاستحقاق الانتخابي، ومعه الأزمة الداخلية التي بدأت تحرق المدن الأميركية الواحدة تلو الأخرى، تبدو أقرب إلى انتهاج سياسة أكثر تشدّداً لكسب ما أمكن من نقاط سياسية، باتت نادرة اليوم، ما يجعل سياسة الضغوط القصوى المتعدّدة الاتجاهات، تتخذ في الفترة المقبلة نمطاً أكثر شراسة، لا تنفع معه مناورات سياسية، كتلك التي يخوضها التيار البرتقالي، في محاولة ترطيب الأجواء مع السفارة الاميركية، إن بلقاءات مباشرة أو بسيل من المواقف المصوّبة على «حزب الله».



يعني ذلك، أنّ التيار الوطني الحر سيكون مضطراً في مرحلة ما إلى مواقف أكثر تقدّماً مما خرج على لسان قيادييه خلال الأسبوعين الماضيين، لتكريس التمايز عن «حزب الله»، وربما تجعله الضغوط الاميركية امام خيارات أكثر نوعية، قد تصل إلى مستوى فك الارتباط مع الحزب.



هذا ما يفسّر التخبّط الذي يسود مواقف التيار الوطني الحر في الفترة الراهنة، والذي يعكس مأزقاً، يجد نفسه فيه عالقاً بين مطرقة الضغوط الأميركية المتزايدة، وبين سندان التوازنات الداخلية، لا سيما في الشق المتصل بالعلاقة مع «حزب الله»، والتي انتجت الحكومة اللبنانية الحالية. ومن هنا، تأتي التسريبات التي تذهب نحو الحديث عن احتمالات تعديل وزاري أو ربما تغيير حكومي كامل.



امتداداً لما سبق، فإنّ مأزق التيار الوطني الحر يكمن في أنّ هذا التموضع المعقّد بين الولايات المتحدة و«حزب الله» سيطال، من دون أدنى شك، الطموحات الرئاسية لجبران باسيل، الذي يدرك تماماً أنّ غياب الدعم الأميركي يعني أنّ فرصه ستكون معدومة، وبأنّ الحال ستكون كذلك في حال غياب الغطاء الداخلي لترشحه للرئاسة.



وامتداداً أيضاً لما سبق، فإنّ النهج المتبّع من قبل التيار الوطني الحر في الملف الاقتصادي - الإصلاحي، سرعان ما سيصطدم بالشارع الذي يستعد لموجة ثانية من الحراك الشعبي، قد تكون أكثر عنفاً من جولتها السابقة التي اشتعلت في 17 تشرين الأول، ما يعني أنّ «العهد» عموماً، و«التيار» خصوصاً، سيصبح مجدداً في مرمى غضب الشارع، الذي سيكون عبارة عن تقاطع حاد بين الضغط الاقتصادي- الاجتماعي والضغط السياسي من قِبل الخصوم، وربما الحلفاء.



هذا السيناريو يجعل العونيين أمام خيار من اثنين: إما تقديم تنازلات داخلية تؤكّد التجربة أنهم غير مستعدين - أو ربما غير قادرين- عليها؛ وإما الذهاب إلى صدام مباشر مع الشارع، على شاكلة «البروفة» التي دارت رحاها على طريق القصر الجمهوري يوم الأحد الماضي، بكل ما يترتب على صراع من هذا القبيل من تداعيات سياسية، قد تجعل قصر بعبدا أشبه بالبيت الأبيض الذي حوصر بغضب شعبي جعل رئيسه حبيس ملجأ في داخله.