إلى المؤرّخ والمناضل العزيز الدكتور عصام خليفة... بقلم الدكتور نسيم الخوري

  • شارك هذا الخبر
Monday, June 1, 2020

الجمهورية المستحيلة
في مقدّمة وسبع كلمات

إلى المؤرّخ والمناضل العزيز الدكتور عصام خليفة،

أهدي هذا النص الطويل مستنداً إلى إطّلاعك الوطني في مئوية لبنان الكبير. وأسألك علناً أن تجيبني في مقال على فرضيّة تشغلني شخصيّاً وتشغل لبنان مختصرها أنّ أجيال معظم (وأضع خطّاً تحت معظم) اللبنانيين من السنّة والشيعة وباقي الطوائف المولودين بعد تسوية 1861- 1864 من أهالي عكّار وطرابلس وبيروت وصيدا وصور ومرجعيون وحاصبيا والبقاع وبعلبك، لا يعرفون تماماً جبل لبنان لا جغرافيّاً ولا تاريخياً ولا سياحيّاً ، وأكاد أجزم، وليس الجزم من شيمنا مفكّرين وأساتذة جامعيين، أنّ معظم بنات وشباب هذه المناطق الواسعة، لم يزر هذا الجبل ولو مرّةً واحدة، وكلّ الكلام السلبي المتناسخ في جبل لبنان يبقى مرتجلاً وسياسيّاً وشعبويّاً وطائفيّاً على الأغلب وهو لا يضيف لبنةً إلى الضمّ على الورق المستورد ليس أكثر.
1- مع إطلاق شامل روكز الضابط والنائب الماروني حزباً جديد بعنوان: فجر الجمهورية؟ إذكّر صهر فخامة رئيس الجمهورية اللبنانيّة الجنرال ميشال عون، إن لم يلفته أحد بعد، أنّ في لبنان، ما عدا السهو والخطأ، 19 حزباً للطائفة المارونية، 14 للسنّة، 6 للشيعة، 7 للدروز، 7 لجمال عبد الناصر، 4 للأرمن ،4 للقوميين العرب، 9 لليسار، حزبان كرديّان وحزبان للأقليّات، و10 أحزاب قليلة الفعاليّة.
المجموع إذن 85 حزباً مرخصا عاملا اليوم ما ألّفوا ولن يؤلّفوا وطناً يليق بتاريخنا، فبماذا يحلم اللبنانيون غير الحزبيين مقيمين ومهاجرين، إذن، سوى بالجمهوريّة المستحيلة وأسطورة سيزيف.
نسيت فجر الجمهورية. سيصبح العدد 86 حزباً والحبل على الجرّار إن بقي اللبنانيون لا يعرفون بلادهم ويتفرجّون على الجمهورية المستحيلة.
هذه كلمة أولى ضرورية.
2- تستقرّ الكيديات الطائفية والمذهبيّة لتمهر الهويّة المنغّصة للّبنانيين عبر تاريخ وطنهم. الإسم الأنسب الذي أقترحه لهذه الأوضاع المرّة والإنهيارات وتخبط المسؤولين العام وضياعهم العارم وتضييع مواطنيهم وتدمير وطنهم هو مكائد القادة العشوائيين سياسيين وحزبيين ولا فرق بينهما. نعم عشوائيات وإجرام في التفكير والقول والحكم والتصريحات والخطب والسلوك والعنيف والأحقاد القديمة بما يبقي على لبنان ذلك "الوطن المستورد" عنوان كتابٍ لي، أو "الجمهورية المستحيلة" عنوان هذا المقال.
نعم لبنان دولة مستحيلة من دون ألف ولام تضمّه، مع أنّه سيطفيء في الأوّل من أيلول المقبل شمعته المئة على قيام ما عرف ب"دولة لبنان الكبير". إنّ قرناً من نشوئه وحروبه وتجاربه الدموية لم تكفِ لتلاقي اللبنانيين وتعرّفهم على بعضهم بعضاً، ولم تؤدّي بغير الحزبيين والطائفيين منهم سوى إلى الكفر بوطنهم وتركه نحو زوايا الدنيا، بهدف العيش السخيف مثل أبسط الشعوب والأوطان في العالم.
كلّما "دقّ الكوز بالجرّة"، أوكلّما فكّر البعض بتأسيس حزبٍ أو جمعيّة أو مؤسسة أو حتى عائلة بهدف التغيير ولو الطفيف، ينتصب في وجهه السؤآل الذي يوسّع جمهورية الممالك والطوائف:
أيّ لبنانٍ نريد؟
هو السؤآل الحاضر والمقيت المطروح قبل أن تلفّظ كلمة لبنان المعاصر.
أسأل ما الجديد في لبنانكم اليوم ؟
تكرار لمعزوفة الجوع كما حصل منذ مئة سنة. أمّا الجديد فحنين معلن وتطلّع إلى الخارج لربّما تندلق أكياس الأموال والمساعدات من صندوق النقد الدولي أو من دول اعتادت أن تسعفنا في عطايا مثل السعودية وقطر ودبي ومعظم دول الخليج وغيرها إلى المهاجرين اللبنانيين الذين توقّفوا عن التحويلات الماليّة لأنّ القجج التي ملأوها في المصارف، نهبت بمعظمها أوهربت إلى مصارف الخارج حيث هم مقيمون.
تسابق مقيت على التخريب العام ، وهرولة تسوّل على أبواب الصندوق الدولي في ظلّ ارتفاع نغمات الفدرالية والتقسيم المقنّع والإعتراض الشامل على النظام والصيغة اللبنانية، وحتّى رفض تاريخ ولادة لبنان على أيدي "القابلة" الفرنسية "الإستعمارية" و"الإحتكارية" ، وإعلان سقوط صيغة نظام التعايش بين بشارة الخوري الماروني ورياض الصلح السني في ال1943. أعادنا المفتي أحمد قبلان في خطبة الأضحى وعلى باب فهم مئوية لبنان الكبير، إلى إعلانه عقم النظام وعقم الزمان بحاضره ومستقبله في لبنان. ليس هناك من جمهورية في لبنان بعد، لكن لنتذكّر وطننا معاً من حيث بدأناه إلى اليوم:
3- صحيح أنّ نشأة لبنان جاءت برفع سقفٍ فوق نظامي القائمقاميتين والمتصرّفية العثمانيتين وبرعايةٍ فرنسيّة، لكنّ الأصح أنّ المؤسسين اندثروا، ولن يصدّق اليوم طفل صغير أنّ مئة سنة من الإقامة في حيّز جغرافي واحد لا يتجاوز حيّاً في مدينة كبيرة، يبقينا حزمة من بشرٍ يقيمون في تنافر واشتعالٍ دائمين. ألا يمكن لمئة سنة أن تنشيء وطناً طبيعياً بيننا قادراً أن يحكم نفسه بنفسه من دون التواء الأعناق الدائم نحو الخارج حيث الأبواب المشرّعة نحو أقاصي الشرق والغرب. إن ربط الفساد اليوم بفساد المؤسسين لا معنى له على الإطلاق، لأنّ الإمعان في الفساد والتدمير يفرّق اليوم ولا يجمع ولا يشبع الجائعين كما كان الوضع قبل إعلان لبنان الكبير، وإنّ التوصّل إلى دستور اتفاق الطائف الذي بقي نصّاً لم يقرأ ولم يؤخذ به، جاء بعد حروب أهلية استمرّت 20 سنة. هذا ليس خطأ الآخرين بقدر ما هو فشل مسؤوليينا وممثّلينا وحكّامنا من إرساء نظامٍ حديث ومعاصر ومشذّب من يباس العصبيات الدائمة التجدد.
4- جبل لبنان هو المحور الصلب الذي اختزن الأقليّات التاريخية عبر التاريخ ، وفي رأسها الموارنة والدروز. إن قراءة تاريخ لبنان في العصر الوسيط بين القرنين 9 و15 ، أو بين الفتح الإسلامي والفتوحات العثمانية يدرك جذور تلك الوعورة والتي أسميّها روعة التاريخ، وفشل القوى العظمى على تطويعها، وقبل أن يكون هناك غرب بالمعنى الحديث. لم يحوّل اللبنانيون أنظارهم من الشرق الى الغرب إلاّ بعدما نصبت تركيا مشانق الأحرار وتحوّلت إلى تركيا "الرجل المريض" الذي كان لا بدّ من تقاسم أراضيه الشاسعة. وما حوادث 1860 الطائفية سوى المحطّة الدموية الأولى التي أثخنت أجساد اللبنانيين في الجبل، وتركت ندوباً لم تيبس على شفاههم بين الأجيال. بقي الجبل الماروني الدرزي النواة الصلبة العاصية على تطويعها وكسرها من قبل الغزاة. أورثت تلك النواة اختزاناً لإعتداد جيني لدى أهل الجبل، أكسبهم الصلابة والتمايز والقوة مع كوارث التعالي للعائلات والباكوات والإقطاعيات التي ماشت الأتراك وملكت الأراضي والأحكام وما زالت تركيّة العقل والسلوك.
ماذا تغيّر اليوم؟
لم يتغيّر شيء في رأيي، وأنا أراقب رجب الطيّب أردوغان المشبع بالعثمانيّة يتابع مسحوراً ومنتشيّاً بعد 85 سنة مقرئاً وحيداً يقرأ القرآن في كاتدرائيّة آيا صوفيا في اسطمبول التي حوّلها السلطان العثماني محمّد الفاتح إلى مسجد ثمّ إلى متحف ديني عام 1935، واستمرّت من أبرز الأمثلة البيزنطيّة السياحيّة المزدانة بالزخرفات الإسلامية.
5- بعث البطريرك الماروني الياس بطرس الحويّك بمذكّرة ( 25 /10/ 1919 ) إلى مؤتمر الصلح في باريس جاء فيها: إن لبنان لا يطالب إلاّ بإعادة مناطقه التي يقرّها التاريخ إليه، وتثبتها خريطة رئاسة الأركان الفرنسية لسنوات 1860-1862 لتعود حدوده التاريخية إلى ما يلي: غرباً المتوسط، شمالاً النهر الكبيروخط ينطلق من هذا النهر ويلتفّ حول سهل البقيعة والضفّة الشرقيّة لبحيرة حمص، شرقاً قمم الجبل الشرقي" أنتيليبان" وقمم جبل الشيخ "جبل حرمون"، جنوباً خط ينطلق من أواخر مرتفعات جبل حرمون ليلتفّ حول حوض بحيرة الحولة، جنوباً خطّ ينطلق من الجبال الواقعة شرقي هذه البحيرة ثمّ يلتفّ حولها لينتهي غرباً عند رأس الناقورة، تتطابق مع كيان جغرافي عرف في الماضي باسم فينيقيا، وألّف في العصور الحديثة حتى ال1840 الأراضي اللبنانيّة.
5- جاء في عريضة أهالي الجنوب ( 26/10/1919 ):" "إنّنا نطالب بالإنضمام إلى لبنان فراراً من خطر الصهيونية، ولا نريد أبداً أن نلحق بفلسطين. وإن خفنا أبناء اسرائيل فلا لوم، فإنّ أميركا الغنيّة القوية خافت من الياباني وأغلقت في وجهه أبواب بلادها. فلسطين كصور أرض زراعية ولا يمكن أن تكون سوقاً لنا ولا نذكر أننا أخذنا منها أو أعطيناها في زمنٍ من الأزمات. ثمّ أنّ أخلاقها وموائدها تختلف كثيراً عن أخلاقنا وموائدنا وعوائدنا. فلا يكون بيننا امتزاج وسلام. إن أبى مجلس الأربعة أو مؤتمر السلام إلاّ إلحاقنا بفلسطين فيكون قد ارتكب جنايةَ عظمى يتبعها ولا شكّ جنايات".ووقّع العريضة، أهالي صور وجويا وديركيف ومزرعة مشرف ودير عامص والبياض والمجادل ودير خطار وبرج قالويه وكونين وبيت ياحون وطيرزبنا ودير قانون وتبنين قرية نبيه بري والجمجمية وعيتا وشاف واليهودية وشمع وحانويه وقانا ويارون والحبيبة وطيرحرفا وعلما الشعب والشيخية والباسولية وعين ابل والقوزح ودبل.
6- تلقّى جورج بيكو 62 عريضة في27 /10/1919، تطال أيضاً مؤتمر الصلح بتوسيع حدود لبنان الطبيعية والتاريخية ( 47 من البترون، 12 من الشوف، 1 من الرميلة، 2 من المتن، 1 من دير القمر، كذلك أرسلت 79 عريضة أخرى بالمضمون نفسه(36 من الشوف، 27 من الكورة،15 من المتن، 1 من إقليم الخروب).
7- في الأوّل من أيلول 1920 أعلن قيام دولة لبنان الكبير تحقيقاً للرسالة (24 آب 1920) التي بعث بها رئيس الوزراء الفرنسي ألكسندر ميلليران إلى النائب البطريركي عبدالله خوري رئيس وفد لبنان الثالث إلى مؤتمر الصلح:" إن غاية فرنسا من إعادة وطنكم إلى حدوده الطبيعيّة، فهي تكوين لبنان الكبير، الذي سيشمل عكّار، كما سيمتدّ جنوباً غلى حدود فلسطين. ومن الضروري ضمّ مدينتي طرابلس وبيروت بشكلٍ تام إليه، على أن تحتفظا باستقلالٍ ذاتي واسع، مراعاة للفروق الإقتصادية التي تتّصل بينهما وبين الجبل. لم أعد بحاجةٍ إلى التأكيد على استقلال لبنان الذي سبق للسيّد كليمنصو أن أعلنه كما أعلنته أنا شخصيّاً."
ماذا حصل بعد مئة سنة؟ لم نفهم تاريخ جدودنا جيّداً أو لم نطّلع عليه وبقينا مجرمين
نراوح وندور على أنفسنا بحثاً عن أي لبنان نريد؟
ومعظمنا لم يعرف أو يزر كل النواحي في هذا اللبنان المستحيل.