ثمة ست دول تاريخية ، لا غير ، هي : مصر ـ إيران ـ الهند ـ الصين ـ اليونان ـ روما ( إيطاليا ). وثمة ثماني حضارات عظيمة شكلت العقل البشري ، وهي : الفرعونية ـ الفينيقية ـ بلاد ما بين النهرين ـ الفارسية ـ الهندية ـ الصينية ـ الإغريقية ـ الرومانية . وهناك ثلاث مدن تاريخية شكلت أفكار البشر وهي : مدينة أثينا اليونانية من خلال فلسفتها وعلومها ، و مدينة روما الإيطالية من خلال قوانينها ودولتها ، ومدينة صورالفينيقية من خلال تجارتها ونقلها حروف الأبجدية إلى العالم القديم ما عدا العالم الصيني والعمق الآسيوي . ما خلا ذلك مستحدث و يحتمل النقاش ، وأجوبته المتعجلة تنطوي على اضطراب الإستدلال أو اندفاعات العواطف ، ولا يلغي الإستحداث ممالك قامت وتوسعت ثم اندثرت ، فالحديث هنا عن دول قامت في التاريخ وما فتئت قائمة ، مع ملاحظة الفارق بين مملكة قامت على فعل القوة الصرفة ولما انصرفت قوتها انصرفت معها ، وأخرى استحالت دولة واستمرت بقوة التاريخ . اين العرب من ذلك ؟ العرب كأمة مستحدثة ، ينطبق عليهم ما ينطبق على غيرهم من الأمم المستحدثة ، وهذه الأمم هي الغالبة عددا وأرقاما في العصور الحديثة ، وفيما لا يمكن الحديث عن " أمة عربية " متحققة في التاريخ ، فكذلك لايوجد " أمة روسية " أو تركية أو فرنسية أو المانية متحققة في التاريخ ، إنما التاريخ يتحدث عن " أمة مصرية " متحققة ، و" أمة ايرانية " متحققة ، وهي حال " الأمة اليونانية " و "الأمم " الهندية والصينية والرومانية المتحققة جميعها في التاريخ . في الأمثلة المسبوقة الذكر ، الأمة سابقة على الدولة ، وتلك كانت قاعدة في التاريخ القديم والسياسات القديمة ، غير أن تطور العقل البشري وما أنتجه من تطور في الفكر السياسي طرح سؤالا في غاية الأهمية : هل يمكن أن تسبق الدولة الأمة أم أن الأمة يجب أن تسبق الدولة دائما ؟ ذاك السؤال استولد نفسه من واقع قيامة دول ليست أمما بالأصل ، ولكن إقامة الدولة يؤدي إلى قيامة أمة ، ومن أمثلة ذلك : كل دول القارة الأميركية من كندا شمالا إلى تشيلي جنوبا ، وهي الحال نفسها في أوستراليا ونيوزلندة ، حيث الجماعات المهاجرة تآلفت لبناء دولة ، والدولة أنتجت مواطنين تحت سلطة الدولة وقوانينها ومناهجها التعليمية والتربوية ، فتقاربت ثقافاتهم وتقلصت فوارقهم ، فإما تحولوا إلى أمة ، وإما قطعوا شوطا بعيدا في الطريق نحو التحول إلى أمة من خلال الدولة المستحدثة و تحت رعايتها . هل هذه الدول خطأ تاريخي ؟ أم كتلة أخطاء تاريخية ؟ مواطنو تلك الدول لا يقولون ذلك . بل هم يفتخرون بدولهم . إلى العرب مجددا وعن " سايكس ـ بيكو " بالتحديد : اتفاق " سايكس ـ بيكو " هو " قسمة ضيزى " بيت فرنسا وبريطانيا ل " ممتلكات " السلطنة العثمانية أو ما عُرف ب " المسألة الشرقية " منذ النصف الأخير من القرن التاسع عشر ، والقول ب " ممتلكات " السلطنة العثمانية ناتج عن الطبيعة التاريخية والمصطلحات السياسية في تلك المرحلة . السؤال هنا : دول الحلفاء وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا هزمت السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وأخرجتها من الديار العربية ، هل يعني ذلك أن الدول العربية التي قامت في فترة ما بين الحربين ولاحقا بعد الحرب العالمية الثانية هي دول فاقدة للشرعية لكونها منتوجا استعماريا ، وما يطال دولة يطال كل الدول العربية ؟ ومن هذه الزاوية لا استثناء لدولة على أخرى . مع " سايكس ـ بيكو " من جديد : هذا الإتفاق لتقاسم " الإرث العثماني " اقتصر على المشرق العربي ، وبالتحديد بلاد الشام والعراق ، حيث كانت خطوط النفوذ والإحتكاك الفرنسية ـ الإنكليزية ، فالفرنسيون ما كانوا ليساوموا او يفاوضوا على نفوذهم في المغرب العربي ، وهم الموجودون في الجزائر على سبيل المثال منذ عام 1830، وفي تونس منذ عام 1881، وفي المغرب منذ عام 1912 ، ولكن منذ عام 1845 فرضت فرنسا ترسيما للحدود بين الجزائر والمغرب . الإنكليز من جانبهم ، ما كانو ليفاوضوا على مناطق نفوذهم القديمة والجديدة ، كما هو أمر مصر منذ عام 1881، ومثلما هي مستجدات النفوذ التي اكتسبوها في فلسطين والعراق والخليج في الحرب العالمية الأولى ، علما أن النفوذ الإنكليزي في عدن جنوبي اليمن يعود إلى عام 1839 وحتى عام 1967. ووفق هذا المشهد الخاضع لتقاسم النفوذ الإنكليزي ـ الفرنسي ، بات العراق وبلاد الشام ، دون سواهما ، خاضعين لمضمون اتفاق " سايكس ـ بيكو " ، ومن خلال هذا التقاسم نشأت أربع دول هي لبنان وسوريا والعراق والأردن ، وأما فلسطين فقد أسقطها الإنكليز في براثن الإحتلال الإسرائيلي . ذاك موجز لا بد منه ، وثمة موجز آخر قبل الحديث عن " الخطأ التاريخي " أو " الأخطاء التاريخية ". سبق القول إن " الأمة العربية " غير متحققة في التاريخ ، وعلى ما يقول المفكرون القوميون العرب أنه " يجب استكمال بناء الوعي القومي " ( علي ناصر الدين ) و " الأمة العربية قيد التحقق ( قسطنطين زريق) ، و " عن شرط استيقاظ الشعور القومي لتحقيق الوحدةالعربية ( شرط الإستيقاظ ) وإذا استمرت ضآلة هذه الشعور ، فستتوقف الجهود وتنهار العزائم " كما قال ساطع الحصري . ماذا عن الدولتين الأموية والعباسية ؟ يقتبس خليل مردم بك ( ابن المقفع ـ مكتبة عرفة ـ دمشق 1930) عن سليمان بن عبد الملك قوله : " العجب لهذه الأعاجم كان المُلك لهم فما احتاجوا إلينا ولما ولينا لم نستغن عنهم ، ألا تتعجبون من هذه الأعاجم احتجنا إليهم في كل شيء ؟ " ، ولم تختلف حال الدولة العباسية وأحوال الأعاجم فيها ، منذ شرارة ثورتها الأولى على الدولة الأموية وصولا إلى تنازع الفرس والترك على مواقع النفوذ فيها وآليات إدارتها ، وما خلافات المأمون والأمين سوى شاهد على ذلك. ما غايات هذا القول ؟ غايات هذا القول يندرج في إطار ما سبق قوله حول انعدام تحقق " الأمة العربية " في التاريخ ، وهذه الأمة راح يتبلور الوعي بتحقيقها منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي ابتداء من العاصمة اللبنانية بيروت ( ناصيف اليازجي ـ بطرس البستاني ) ، وأما ما سبق وعلى مثال الدولتين الأموية والعباسية ، فهما إمبراطوريتان عربيتان ـ إسلاميتان ، والإسلامية هنا بالمعنى التعددي ـ التزاوجي الكوزموبوليتي ، الذي يخرج عن خصوصية الأمة أو القومية ، مثلما كان تاريخ الدولة الهندية أو الصينية أو المصرية أو الإيرانية . العودة إلى مائة سنة خلت ومضت نشأ لبنان في أيلول 1920. نشأ العراق في الفترة نفسها . نشوء لبنان مرتبط بدون شك بفكرة مسيحية إنما على قاعدة إرادة العيش المشترك مع الطوائف الأخرى ، مع غلبة القرار السياسي والدور الإقتصادي ل " المارونية السياسية " . نشوء العراق ، لم يخرج عن سياق وظائفي هو الآخر ، فلما انتكس مشروع " المملكة السورية " بقيادة فيصل بن الحسين ، استرضى الإنكليز العائلة الهاشمية بعد خسارة مُلكهم في الحجاز وسقوط طموحهم في بلاد الشام ، بدولتين هما : العراق والأردن . إذا تم اعتبار لبنان خطأ تاريخيا ، هل يمكن اعتبار العراق خطأ تاريخيا ، وكذلك حال الأردن وأمره ؟ هذه أمثلة إضافية : لم تعرف وقائع التاريخ ومعاجمه ومجلداته ، دولة اسمها تونس ، ولا الجزائر المرسمة الحدود من قبل الفرنسيين ( لا صلة لهذا القول بثورة الجزائر وشهدائها العظام ) ، فهل هذا يعني أن تونس خطأ تاريخي ومثلها شقيقتها الجزائر ، ومثل الشقيقيتن أيضا ليبيا المجاورة ، وكذلك الجارة الثانية موريتانيا وكلها دول لم تكن موجودة في التاريخ ؟. بالإتجاه نحو السودان ، حيث لم يعرف التاريخ دولة سودانية موحدة ولا دولة اسمها السودان ، بل ممالك وإمارات قبلية وجهوية ، ومنذ الظاهر بيبرس ووصولا لأسرة محمد علي وحتى خمسينيات القرن العشرين بقي النفوذ المصري ضخما وواسعا في السودان ، وفي عام 1953 توصل الرئيس جمال عبد الناصر إلى اتفاق مع بريطانيا لإنهاء الإدارة المصرية ـ الإنكليزية المشتركة للسودان ، مما مهد لإستقلاله في عام 1956. هنا سؤالان : هل السودان خطأ تاريخي ؟ وهل الرئيس جمال عبد الناصر " تفاهم " أو " اتفق " مع الإستعمار الإنكليزي لفصل السودان عن مصر ، بعدما عُرفت الدولتان لفترة وجيزة ب " مملكة مصر والسودان " ؟!!. بعض الأمثلة أبعد من أمثلة العرب ، ومنها : حتى عام 1947 ، لم يكن هناك دولة إسمها باكستان ، وعمليا وواقعا انفصلت عن الهند في السنة المسبوقة الذكر ، وفي عام 1971، انفصلت باكستان الشرقية عن باكستان الغربية ، وغدا القسم الشرقي معروفا ببنغلادش . هل باكستان خطأ تاريخي ، ومثلها بنغلادش ؟ هذا مثال أوروبي وبدون إطالة ولا استغراق : بعد الحرب العالمية الأولى تفككت الإمبراطورية النمساوية ـ المجرية وظهر على أنقاضها دول النمسا والمجر وتشيكيا وسلوفاكيا وكرواتيا ، (سايكس ـ بيكو آخر ) وإثر انهيار الإتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي عادت دول البلطيق الثلاث ( لاتفيا ـ استونيا ـ ليتوانيا ) إلى الظهور ، وكذلك أوكرانيا ، وانفصلت تشيكيا عن سلوفاكيا مجددا ب " طلاق مخملي " وقيل فيه بأنه طلاق محمود. لا ضرورة للحديث عن اسبانيا والبرتغال وكانتا دولة اتحادية واحدة ، ولا عن بولندا المتمددة في حين والمتقلصة في حين آخر ، والأمثلة الأوربية متعددة ومتنوعة استنادا إلى قاعدة صعود الدول وهبوطها . هذه حكمة من افريقيا : قامت منظمة " الوحدة الأفريقية " في عام 1963، على قاعدة الحفاظ على حدود الدول الناشئة التي رسمها الإستعمار ، وإلا سيكون بديلها حروبا لا تنتهي ولا تُبقي ولا تذر . وهذه حكمة من أوروبا : تقوم فكرة " الإتحاد الأوروبي" بأصلها وفصلها على قاعدة الإعتراف بحدود دول ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وإلا سيكون بديلها حروبا كل عقد أو عقدين مثلما جرت أهوال وكوارث الحربين العالميتين الأولى والثانية . هل كل هذه الدول على خارطة العالم أخطاء تاريخية ؟ وكم يبقى من الدول التي ليست نتاجا ل " أخطاء التاريخ " ؟ أين الصواب ؟ في " الوطن الخطأ "؟ أم في العقل الخطأ الذي لا يرى في الأوطان والدول تسويات وصناعات بين البشر ؟ فيقع في الخطأ ثم في الخطأ ثم في الخطأ؟ عشتم وعاش لبنان