مصطفى فحص- لبنان... جمهورية الأسلاك الشائكة

  • شارك هذا الخبر
Saturday, January 25, 2020

كشفت تركيبة الحكومة اللبنانية الجديدة عن حالة انفصام شديدة تعاني منها الطبقة السياسية الحاكمة، ألغت بموجبها ليس فقط مساحة الحوار بينها وبين انتفاضة 17 أكتوبر، بل قامت بخطوات سياسية وأمنية مريبة، ستؤدي إلى إلغاء مساحة الحوار بينها وبين كافة اللبنانيين.

ومن الواضح أن السلطة المرتبكة لجأت إلى فعل الاختباء أو الاختفاء خلف جدران إسمنتية عازلة، عززتها بأسلاك شائكة حول مؤسساتها الرئيسية، لعلها تحميها من غضب اللبنانيين المتصاعد، الذي بدأ يأخذ أشكالا أخرى غير تلك التي اعتدنا عليها في الشهرين الأولين للانتفاضة.

فقد قامت السلطة وفي خطوة ناقصة ومن دون تقدير لعواقبها، برفع جدران وتركيب حواجز حديدية ووضعت أسلاكا شائكة عند المنافذ التي تؤدي إلى السراي الحكومي (مقر مجلس الوزراء) وإلى ساحة النجمة حيث يوجد مجلس النواب اللبناني، الذي تحول منذ أكثر من شهر إلى هدف مشروع للانتفاضة بعد إجماع كافة مكوناتها على ضرورة تقليص دوره التشريعي حتى الوصول إلى انتخابات برلمانية لا تختزل فيها أحزاب السلطة شرعية التمثيل الشعبي.

فمما لا شك فيه أن معركة الانتفاضة بوجه سلطة مجلس النواب اللبناني تختلف عن مواجهة الحكومة السابقة التي سقطت تحت الضغط الشعبي، وعن حكومة حالية هامشية، صنعتها أغلبية سياسية عبر آليات منحتها إياها السلطة التشريعية التي لا تزال متمسكة بديناميكيات ما قبل 17 أكتوبر، حيث ستكون المواجهة مع المؤسسة المُسيرة للنظام الطائفي برموزه الأساسية التي سيطرت على مؤسسات الدولة واحتكرت التمثيل السياسي منذ عام 1992.

من هنا فإن المرحلة الثانية من الانتفاضة انتقلت إلى ضرب محرمات سياسية احتمت بنفوذ الطوائف واختصاصاتها، حتى داخل المؤسسات الرسمية، وفرض معادلة أن المس بهذه المؤسسة، هو تعدٍ مباشر على الطائفة التي تحتكر سلطتها، وهي المعادلة التي أسقطتها 17 أكتوبر في معركتها مع الحكومة السابقة، وتتمسك فيها الآن في معركتها مع سلطة مجلس النواب.

الاستقواء الذي فرضته سلطة مجلس النواب على الأحداث الحالية، فرض على الانتفاضة التخلي عن بعض سلميتها، والانتقال إلى ممارسة عنف ثوري محدود، أقل بكثير من العنف الثوري الذي تمارسه الحركات الاحتجاجية السلمية حول العالم، وهو أقل من المتوقع من المحتجين الذين فجروا غضبهم ضد مؤسسة تتحمل الجزء الأكبر مما وصلت إليه الأوضاع.

وأمام حالة العجز وعدم القدرة على إعادة تعويم نفسها، لجأت هذه السلطة إلى تحذيرات طائفية تربط بينها وبين وسلطة الطائفة، وهما سلطتان باتتا متهمتين، بنظر الانتفاضة، باستخدام أدوات ما دون الدولة للردع، الأمر الذي عزز فكرة أن الطبقة السياسية التي حكمت لبنان بعد اتفاق الطائف دخلت السلطة ولم تندمج بالدولة، وذلك حفاظا على امتيازاتها خلال الحرب الأهلية.

فمرحلة عنف السلطة والعنف المضاد دفعت البعض إلى التحذير من الانزلاق نحو عنف أهلي يعيد إلى الأذهان الحرب الأهلية، خصوصا أن البعض أراد إطفاء طابع مذهبي على المواجهات التي شهدها مدخل مجلس النواب، إلا أن الناشط في صفوف الانتفاضة الدكتور سامر فرنجية وضع تفسيرا منطقيا للعنف الذي شهدته بيروت في الأيام الأخيرة يقول فيه "لا أحد يمجد العنف من أجل العنف، نحن خريجو الحروب الأهلية، ولكن علينا أن نتعاطى مع هذا الأسلوب من الاعتراض بواقعية سياسية، إنها تقنية على الثوار أن ينظموها كسائر التقنيات، تبرير العنف وكأنه مجرّد انفجار شعبي يعيد تكرار رواية السلطة عن العنف كوحش غرائزي لا بد من تطويعه، العنف خيار أخذناه بعدما تبين أن لا مفر منه، لا ينفع التهرب من المسؤولية هنا".

وعليه ترفع جمهورية الأسلاك الشائكة الحواجز لتفصل بينها وبين المواطنين؛ تختفي خلف الإسمنت المسلح لعله يقيها غضب الناس، ولكنها تعاني من عطب في الذاكرة القريبة، حين لم تستطع ترسانة السوفيات منع سكان برلين الشرقية من تسلق الجدار نحو الجهة الغربية، ولم تفلح أجهزة القمع العربية في الوقوف بوجه انتفاضات الربيع العربي. فجمهورية الخوف التي يحاول البعض ترميمها في بيروت لن يختلف مصيرها عن مصير شقيقاتها العربية.