حبيب البستاني - حكومة جديدة وسياسات إقتصادية ومالية جديدة

  • شارك هذا الخبر
Friday, January 24, 2020

لا يختلف اثنان أن البلد يعيش أزمة إقتصادية حادة لم ير لبنان شبيهاً لها منذ عهود الاستقلال الأولى وحتى يومنا هذا، كذلك يجمع رجال الاقتصاد والسياسة أن الأزمة التي نعيش هي نتيجة تراكمات وسياسات تمتد من الطائف حتى اليوم، ولكن المستجد فيها هو انعكاس الوضع الاقتصادي المتدهور على مالية الدولة من جهة والوضع المالي والنقدي للمصارف من جهة ثانية، وكان لاهتزاز الوضع المصرفي انعكاسات كارثية على الناس وعلى معيشتهم وخبزهم اليومي، المتردية أصلاً بفعل انخفاض القيمة الشرائية لليرة، وللأزمة الاجتماعية الناتجة عن فقدان عدد كبير من اللبنانيين لوظائفهم وتخفيض معاشات القسم الباقي منهم، مما أدى إلى انخفاض مدخرات الناس وحتى اضمحلالها ولم ينفع معها مقولة " قرشك الأبيض ليومك الأسود " إذ إن الأزمة قد امتدت طويلاً منذ " الثورة " أي منذ حوالي 100 يوم وهي مستمرة حتى الآن، علماً أن الوضع لم يكن على خير ما يرام منذ ما قبل 17 تشرين الأول. وإذا كان الجميع متفقاً على توصيف الحالة المتردية، ولكن لا بد من التساؤل عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراءها، وهل ان الأزمة هي بحت مالية إقتصادية أم إن السياسة لها دور فيها؟

الأزمة سياسية إقليمية ولكن
مما لا شك فيه أنه كان للحرب السورية نتائجها المدمرة على الاقتصاد اللبناني وهذه الحرب ولدت أكثر من مشكلة وأكثر من انعكاس :
ادت الحرب السورية إلى توقف عجلة الإنتاج في الداخل السوري مما انعكس سلباً على مداخيل التجار والصناعيين السوريين، وبالتالي فإن الحركة الاستثمارية لهؤلاء في لبنان قد تقلصت لا بل انعدمت، وهنا نشير أن السوريين كانوا في فترة ازدهار سوريا من أكبر المستثمرين إن في السوق العقاري اللبناني وإن في الأسواق المصرفية اللبنانية، إذ إن لبنان ونظامه المصرفي كان يشكل ملاذاً آمناً للاستثمارات السورية، والسؤال الذي لا بد من طرحه هو ما الذي منع المتمولين ورؤوس الأموال السورية إبان الحرب السورية من المجيء إلى لبنان كما كان يحدث في السابق؟
في فترة الوحدة المصرية السورية والجمهورية العربية المتحدة وما تبعها من عمليات التأميم التي طالت الملاكين السوريين الكبار والصناعيين السوريين، وفي الفترات التي كانت سوريا تعيش على وقع "البيان رقم واحد" والانقلابات المتلاحقة حتى مجيء حزب البعث الحاكم إلى سوريا، لجأ العديد من السوريين إلى لبنان حاملين معهم رساميلهم التي كان لها دوراً كبيراً في إنعاش الاقتصاد اللبناني، أما لماذا لم يحدث ذلك في بداية الحرب السورية الجواب بسيط وهو وجود الإرهاب كخطر محدق بلبنان واللبنانيين، وبالتالي لم يكن لبنان آمناً بالمعنى الأمني.
أما الانعكاس الثاني للأزمة السورية فهي موجة النزوح الكثيفة التي لم يزل لبنان واقعاً تحت وطأتها.
إضافة إلى العامل السوري هنالك عامل الانكماش الاقتصادي التي تعاني منه دول الخليج والذي حد من الاستثمارات الخليجية وتدني دخل اللبنانيين في هذه الدول مما حرم البلد من تحويلاتهم بالعملات الصعبة.
هنالك العامل الدولي حيث ما زال لبنان يعاني من العقوبات المفروضة عليه والتي لا ناقة له فيها ولا جمل وهي ناتجة عن الصراع الأميركي الإيراني، وقد دفع القطاع المصرفي الثمن الباهظ فيها بإقفال جمال ترست بنك.
كذلك فإن مواقف فخامة الرئيس السيادية والمطالبة بضرورة عودة النازحين ومنع التوطين الفلسطيني وعدم التنازل عن شبر واحد من ثروته المائية والغازية والنفطية ومحافظته على حدود لبنان البرية، أثارت حفيظة العدو الإسرائيلي وطموحاته التوسعية وقام بالتدخل لدى الإدارة الأميركية لفرض المزيد من العقوبات على لبنان واللبنانيين، لا لشيء إلا لكونهم لم يرضخوا للتهديدات التي ترافقت مع إغراءات لتطبيق صفقة القرن.

ولكن السؤال يبقى ما هو دور الداخل والسياسات الاقتصادية والمالية في هذه الكارثة
كما كان الحال في ستينيات القرن الماضي إبان ازمة " إنترا " فإن العوامل الخارجية الرافضة لصعود لبنان كقوة مصرفية إقليمية أولى آنذاك قد تستقطب الفورة النفطية والأموال الناتجة عنها، هذه العوامل لم تكن لتنجح في القضاء على إمبراطورية يوسف بيدس لولا وجود علة مالية كبيرة في المصرف المذكور والتي تمثلت بانخفاض كبير في الاحتياط النقدي لديه، إذ إن القيمين على المصرف كانوا قد استثمروا الكمية الأكبر من رساميلهم في عدة قطاعات أهمها الشركة الفرنسية العملاقة لبناء السفن " La ciotat" وشركة طيران الشرق الأوسط وغيرها من الاستثمارات في قطاع السياحة والعقارات.

اما العوامل الداخلية والتي أدت إلى الكارثة أهمها
سياسة الاقتصاد الريعي وعدم اعتماد الاقتصاد الإنتاجي وذلك يعود إلى سيطرة قطاع التجار والمصرفيين على الاقتصاد وكل السياسات الاقتصادية، وذلك بالرغم من الدراسات والنصائح التي كان أهل الاختصاص وحتى النقابات تنادي بها، فلا يمكن أن يبنى اقتصاد فقط على الخدمات بدون دورة إنتاجية تؤمن الحاجات الأساسية للمواطنين، ونتيجة لذلك بلغ حجم الاستيراد حدوداً خيالية بحيث تجاوز ال 24 مليار دولارفي العام 2018 ، وأصبحنا نطبق مقولة جبران خليل جبران : " ويل لأمة تاكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تنتج "، في وقت غابت فيه السياسات الاقتصادية التي تعطي حوافز للصناعة وتحمي الزراعة وتوفر لها سبل الدعم.
وكانت دراسة ماكينزي قد شجعت على تنمية الاقتصاد القطاعي وأوصت بأن يتم دعم وتنشيط دورات الإنتاج والمؤسسات الصغيرة كشرط أساسي لتحقيق النمو الاقتصادي.

ماذا عن السياسة المالية
مقايل سياسات إقتصادية أثبتت فشلها، كان للسياسات المالية الحصة الأكبر في الإنهيار، فلا يمكن أنه وبحجة تأمين قوة شرائية للمواطنين الحفاظ على سعر وهمي لليرة وصرف المليارات من احتياطي المركزي من العملات الصعبة لتثبيته، علماً أن ذلك لم يمنع من ازدياد التضخم وانخفاض القيمة الشرائية للعملة الوطنية، سيما وأننا نعيش في ظل اقتصاد يعتمد أساساً على السلع المستوردة والصناعة تشكل نسبة ضئيلة لا تكفي حاجة المستهلك.
كذلك كان لتثبيت سعر الصرف طيلة سنوات أثره السيء على المؤشرات الاقتصادية، إن قوة الاقتصاد تنعكس على سعر صرف العملة وبالتالي فإن عدم انخفاض سعرصرف الليرة كان يوحي بأن الاقتصاد هو بألف خير، وبالتالي لم يكن على الممسكين بالسياسة الاقتصادية اللجؤ إلى ما يسمى إجراء تعديلات على العوامل الاقتصادية " ajustements " وبالتالي أصبحنا مثل المريض التي ترتفع حرارته ونحن لا نعلم لأننا استغنينا عن ميزان الحرارة، فسعر صرف العملة يشكل المؤشر على سلامة الاقتصاد من عدمه.
من جهة أخرى لا يوجد في نطام إقتصادي ليبرالي سعر موازي للصرف وآخر رسمي، والبلدان التي اتبعت هذا النظام كسوريا مثلاً كانت تؤمن الدعم لسلة كبيرة من السلع الأساسية التي يحتاجها المستهلك فكان يتم إعطاء قسائم تموينية بأسعار مخفضة من المواد الغذائية بحسب حاجة كل فرد، فتعطى كميات مازوت للتدفئة في الشتاء وأسعار محروقات وطحين ومواد غذائية وغيرها باسعار مدعومة، وهذا ما لا قدرة للبنان على القيام به لعدة أسباب لعل أهمها كون عدد القاطنين فيه يشكل أكثر من نصف عدد المواطنين، وبالتالي فإن الغير لبنانيين سيستفيدون من السلع المدعومة قبل اللبنانيين، وعندها ستختفي اللحوم على سبيل المثال والمواد الغذائية وغيرها من الأصناف المدعومة من رفوف المحلات كما كان يحدث في الاتحاد السوفييتي القديم وغيره من بلدان المعسكر الاشتراكي أنذاك.

المطلوب أكل عنب وليس قتل الناطور
بالتالي فإننا إذا كنا لألف سبب وسبب عاجزين من تغيير الأشخاص المسؤولين عن السياسات المالية التي أمنت الحماية للمصارف وأصحابها على حساب اللبنانيين، فإن المطلوب إقناع هؤلاء بضرورة تغيير سياساتهم المالية وهندساتهم التي أثبتت فشلها وهذا ليس بحاجة إلى برهان، كذلك ينبغي على المصارف التي قام اصحابها باستثمارات خاطئة أن يدفعوا الثمن من جيوبهم وليس من جيوب المودعين، ومن بديهيات الاستثمار المجدي هو أن لا تضع كل البيض في سلة واحدة وبالتالي كان على المصارف ألا تضع كل استثماراتها في سندات الخزينة التي كانت تجني الفوائد الخيالية من عائداتها، وربما ما قام مصرف لبنان قد أغرى أصحاب المصارف الذين علقوا في المصيدة وبعدما حققوا الأرباح الطائلة لسنوات وعقود أصبح لزاماً عليهم أن يتحملوا الخسائر، فعلى سبيل المثال لا الحصر وإبان انهيار عملاق الاستثمارات العقارية الأميركية Enron تحملت مصارف كبيرة كان لها استثماراتها الكبيرة في السوق العقاري بحيث تكبد كل مصرف أكثر من 500 مليون دولار خسائر ومن هذه المصارف Stanly & Morgan وJP Morgan و City bank وغيرها.
هذا غيض من فيض وبالتالي فإن الموضوع المالي بحاجة لأكثر من مقال وأكثر من دراسة وهنالك عدة نظريات ومفردات ملأووا رؤوس اللبنانيين بها، ولكن الأهم من كل ذلك هو رسم سياسة إقتصادية ومالية مختلفة تماماً عما هو معمول به من تسعينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا، وهذه الحكومة التي لا تملك ترف الوقت وليس أمامها إلا خياراً واحداً هو النجاح والنجاح وثم النجاح عليها أن تسرع في اختيار السياسات الموضوعية والعلمية المناسبة ووضعها موضع التنفيذ.