حسين عبد الحسين- لبنان وتاريخه المتخيل

  • شارك هذا الخبر
Sunday, September 15, 2019

تاريخ الأمم والشعوب متخيل بغالبيته. لكن بعض المخيلات ضحلة، ينتج عنها روايات مضحكة. رئيس لبنان ميشال عون أعلن بدء الاحتفالات لاقتراب الذكرى المئوية على إعلان الفرنسيين قيام لبنان، في العام 1920، وقال في خطاب متلفز إن البلاد عاشت في ظل أربعة قرون من الاحتلال العثماني، بين 1516 و1918، "تقلّب (فيها) شكله السياسي… وتغيّرت مساحته وامتداده تبعا للظروف… فيما كان باقي المناطق اللبنانية مسلوخا عنه تماما، وخاضعا للحكم العثماني".

المسلّي في هذه الرواية هو الحديث عن "سلخ" العثمانيين لبعض المناطق اللبنانية عن الوطن الأم. طبعا رئيس لبنان يعتبر أن المناطق المسلوخة هي التي أعادها الفرنسيون إلى جبل لبنان يوم أعلنوا قيامه، وهو ما يطرح السؤال التالي: يوم "اجتاح" العثمانيون المشرق ومصر، هل كان البقاع لبنانيا تابعا لسيادة بيروت؟ هل كان الشمال لبنانيا، أم الجنوب؟ الإجابة الصحيحة هي أن هذه المساحات كانت تحكمها جماعات محلية، غالبا بالاتفاق مع القوى السائدة، مثل الإسماعيليين أو المماليك أو العثمانيين. لكن هذه المساحات، التي تشكل جزءا من لبنان اليوم، لم تخل نفسها لبنانية، ولم ترتبط مع بعضها البعض بمركز سيادي واحد. والواقع أن لبنان، في كل أشكاله التاريخية المتخيلة التي أشار إليها رئيسه، لم يتخذ يوما شكله الحالي، أو شكلا شبيها للحالي، قبل العام 1920.

مؤرخو لبنان الحديث ـ وهم في غالبيتهم من غير أهل الاختصاص ـ حاولوا البناء على هوية الكنيسة المارونية، كنواة للهوية اللبنانية، أو البناء على تاريخ الفينيقيين السحيق. في الحالتين، المارونية والفينيقية، لا يمكن التوصل إلى أن لبنان كيان سابق لقيامه في 1920، فكرسي الكنيسة المارونية هو مدينة أنطاكية، التركية اليوم، وعلى الرغم من إلصاق الفرنسيين شعار الكنيسة المستقى من العهد القديم، أي شجرة الأرز، على علم فرنسا لاستنباط علم لبنان، إلا أن انتشار الموارنة كان أوسع من لبنان عشية قيامه، إذ هم تواجدوا في سوريا وفلسطين وقبرص.

أما الفينيقيون، فهم حضارة انطلقت من الساحل الكنعاني الأوسط (اللبناني اليوم) حوالي العام 1200 قبل الميلاد، وهيمنوا على حوض المتوسط. والحضارة الواحدة لا تعني بالضرورة بلدا واحدا ذات سيادة، فالفينيقيون كانوا دولا متنافسة، سياسيا وتجاريا، مثل صيدا وصور وجبيل. صحيح أن صور تفوقت أحيانا على أقرانها، لكنها لم تسع إلى توحيدهم تحت لوائها، بل إن المستوطنات الفينيقية في حوض المتوسط حملت انقسامات كنعان معها، فقرطاجة التونسية كانت تابعة لصور، فيما بنزرت التونسية كانت لصيدا.

ثم تراجعت السطوة الفينيقية في المتوسط مع اجتياح شعوب البحار، أي الفلسطينيين، الساحل الجنوبي لكنعان، فتراجعت القوة البحرية لصور، وانحصرت التجارة الفينيقية في وسط وغرب المتوسط، فتفوقت قرطاجة التونسية، ومعها طبرق الليبية وعائلة هنيبعل. أما صور، فتحولت إلى محجة دينية للقرطاجيين، فيها هيكل الإله "ملك أرض"، ملكرت أو هرقل باليونانية. لكن السيادة الفينيقية بقيت في تونس، منذ منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد وحتى هزيمة الفينيقيين على أيدي روما، ثم انحسارهم واندثار البيونية الفينيقية في القرون الميلادية الأولى. والسؤال هنا: كيف يمكن للبنان أن يتبنى أساطير وتاريخ أحداث انطلقت منه ولكنه لم يكن جزءا يذكر منها؟

حتى في كنعان، أي المشرق الذي يتضمن لبنان، امتدت الحضارة الفينيقية على مساحة أكبر من لبنان اليوم، فتدمر ودمشق وبعلبك كانت مدن في فينيقيا اللبنانية، وعاصمتها حمص، وهي كانت محافظة رومانية نافست محافظة فينيقيا البحرية، وعاصمتها صور. وكان من مدن فينيقيا البحرية عكا الفلسطينية جنوبا، وجبلة السورية شمالا.

قد لا يعرف رئيس لبنان أنه يوم رسمت فرنسا وبريطانيا دول المشرق، بعد الحرب العالمية الأولى، لم تفعل ذلك تصحيحا للتاريخ الذي عبث به العثمانيون، حسبما يعتقد، ولا لمصلحة السكان المحليين، بل لمصلحة كل منهما. والقوى الأوروبية كانت تتنافس فيما بينها في محاولة السيطرة على طريق التجارة مع الهند، فحاولت ألمانيا بناء خط قطار برلين بغداد لمنافسة قناة السويس، واقتطعت بريطانيا الكويت عن السلطنة وأغلقت المنفذ المائي للقطار الألماني العثماني. أما فرنسا، فراودتها فكرة إعادة إحياء "طريق الحرير" عبر الموصل، فبغداد، ومنها عبر نهر ديالى إلى شمال إيران، فآسيا الوسطى، والصين، وربما الهند. لكن بريطانيا كانت الأقوى، وفازت بولاء العرب السنة، ضد الأتراك. وحتى تنافس بريطانيا، حاولت فرنسا رعاية الأقليات. أما أميركا، فرعت خطاب معاداة الإمبريالية، لزعزعة الأوروبيين، فيما دعمت في الوقت نفسه عبدالعزيز آل سعود في رحلة البحث عن النفط، ثم استخراجه.

هكذا رسمت بريطانيا وفرنسا المشرق والعراق. بريطانيا رعت السنة وحاولت توزيعهم تحت حكم أبناء الشريف حسين الحجازي. أما فرنسا، فحاولت إضعاف الغالبية السنية في الأراضي التي سيطرت عليها، فراحت توزّع مناطقهم على دويلات في معظمها غالبية من الأقليات.

هكذا تم رسم حدود لبنان الجنوبية حسب خط فصل بين غالبية سنية، شمال فلسطين، وغالبية من المسيحيين والشيعة، جنوب لبنان، وهناك سبع قرى غير سنية رسمها الانتداب في فلسطين، وصارت اليوم جزءا من إسرائيل، وما يزال اللبنانيون يعتبرونها لهم ويسمونها "القرى السبعة"، مع إشارات سير في الجنوب تشير إلى الطرق اللبنانية التي تودي إليها.

أما شمال لبنان، الذي يخترقه خط سكاني سني يصل الداخل السوري في حمص وحماة بطرابلس الشام، فتم توزيع السنة بين لبنان وسوريا باتخاذ "النهر الكبير" خطا حدوديا. وعندما أعلن الفرنسيون دولة العلويين وعاصمتها اللاذقية الساحلية، اضطروا جغرافيا لإبقاء تلكلخ، ذات الغالبية السنية، في الدولة العلوية، فكانت تلكلخ الوحيدة في تلك الدولة العلوية المسيحية الإسماعيلية التي ثارت على الانتداب وطالبت بالانضمام لدمشق.

ليس لبنان اليوم تجليا لأي لبنان ماض، بل حدوده هي ـ مثل حدود سوريا وفلسطين والعراق والسعودية وغيرها ـ من متبقيات ميزان القوى بعد الحرب الكونية الأولى. على أن هذا لا يعني أن لبنان لا يصلح أن يكون بلدا حرا مستقلا، فالأوطان لا يصنعها التاريخ، بل يصنعها من يعيشون في الحاضر، ويتطلعون نحو المستقبل.