ادمون الشدياق - احتلوا الارض… فلنقاوم احتلال العقل والقلب والنفس

  • شارك هذا الخبر
Friday, June 14, 2019

الخطر الحقيقي ليس على كيان لبنان ، بل على هوية لبنان. (الشيخ بشير الجميل)
كان لبنان، ونظراً لموقعه الجغرافي الاستراتيجي، ممراً للفاتحين ولكل القوى التوسعية التي انطلقت شمالاً أم جنوباً في هذا الشرق منذ نعومة أظافر التاريخ نفسه.وكان أيضاً في مقاومته لهذه القوى مسرحاً لأروع ما خطه التاريخ من ملاحم البطولة العسكرية والفكرية والروحية.
وقد تمتع، بفضل جباله، خلال الأجيال بنعمة الاستقلال الكامل والاستقلال الجزئي وعصى على الفاتحين، وإذا صدف ان استطاع الفاتح ان يغزو أرضه فانه كان يجد من الحكمة ان يبقي على كيانه المستقل.
فان المحتلين العرب الذين احتلوا لبنان في القرن السابع للميلاد استطاعوا ضم لبنان الى الإمبراطورية العربية ولكن بطريقة صورية. إذ انه لم تكد تمر بضع عشرات من السنين حتى رفض سكانه من الموارنة دفع الجزية الى الخليفة الاموي في دمشق؛ ليس هذا وحسب بل فرضوا على الامويين نوعاً من الجزية يدفعونها مخافة ان يهاجمهم الموارنة.
ويشهد التاريخ مرة بعد مرة ان الاستيلاء على لبنان كان يبدو للغازي قريب المنال كالسراب ولكن في الواقع صعب التحقيق. وهذا كان واقع الحال مع الإمبراطوريات التي جاءت قبل الاحتلال العربي او مع باقي الدول التي انبثقت عن هذا الاحتلال او حكمت باسمه حتى قيام الجمهورية اللبنانية.
تاريخ لبنان الحديث
كان لكل حقبة من حقبات تاريخ لبنان مقوماتها وسماتها التي تميزت بها. والتاريخ الحديث للبنان الذي ابتداء مع وصول الأمير فخر الدين الثاني الى سدة الامارة لم يشذ عن هذه القاعدة. وبرأي ان السمة الرئيسية التي ميزت هذه الحقبة هي الصراع المرير المستميت بين حاملي لواء الاستقلال والقومية اللبنانية وحركات التذويب المعادية لهذه القومية.
إذ أن الحروب والهجمات التي تعرض لها لبنان في هذه الحقبة من تاريخه وحتى يومنا هذا، كانت كلها حروب وهجمات عسكرية ذات أبعاد أيديولوجية تبغي القضاء على الاستقلال اللبناني، وعلى القومية اللبنانية والهوية اللبنانية المميزة. فهي لم تكن حروباً بالمعنى التقليدي ، لكسب جغرافي او عسكري، بل حروباً تذويبية الغائية للكيان اللبناني المميز.
وهذا الصراع للحفاظ على الاستقلالية والاستقلال الذي ذهب ضحيته عمالقة في تاريخ لبنان من أمثال الأمير فخر الدين ويوسف بك كرم والقائد الشيخ بشير الجميل كلما تقادم عليه الزمن اشتد مرارة وخطورة.
المؤامرة على الاستقلال
وفي هذا السياق وبعد إنشاء الجمهورية اللبنانية وهي قامت جراء توافق مسيحي – إسلامي، قائم على التعددية. حاول حاملي لواء العروبة والمد الصحراوي، وهم من عارض استقلال وقيام هذه الجمهورية (وقد رأوا في التعددية الديمقراطية ثغرة يمكن استغلالها للانقضاض على الكيان اللبناني) القضاء على القومية اللبنانية من خلال تفتيت الكيان اللبناني ونسف التعددية الحضارية على دفعات، وحسب خطة مدروسة. وهي وأن لم تنتهي فصولها بعد فقد انكشفت حتى الآن الكثير من اقنعتها ومنها وعلى سبيل المثال لا الحصر:
اللعب على التناقضات داخل المجتمع اللبناني واستخدام القضية الفلسطينية كقميص عثمان ومصر وسوريا وليبيا وإيران كرؤوس حربة وتعاطف بعض اللبنانيون معهم وسيلة لهذا التفتيت.
وأن ننسى لا ننسى أحداث 1958 ونيسان وأيار وتشرين الثاني 1969, وأحداث أيار 1973 والهجمة المسعورة على الكيان والاستقلال اللبناني منذ 13 نيسان 1975.
كما قاموا بزرع أيديولوجيات عقائدية أو دينية متطرفة (القومية العربية، القومية السورية، الأممية الإسلامية…الخ) بين فئات مختلفة من المجتمع اللبناني. مستغلين حساسيات كل من هذه الفئات لتعبئتها ضد القومية اللبنانية ولإضعاف الجسم اللبناني.
وأحد وجوه هذه الخطة المدروسة ضد الاستقلال والكيان اللبناني كان التحضير للحرب التي فجروها في 13 نيسان 1975 وذلك لضرب البنى التحتية للكيان اللبناني:
فشلوا مؤسسات الدولة،
وقسموا الجيش الى ألوية طائفية،
وعملوا منذ اليوم الأول من حربهم على لبنان على ضرب القطاع المصرفي
(وعملية البنك البريطاني في منطقة الأسواق التجارية خير دليل على ذلك)،
وبفعل تلك الحرب قضوا أيضاً على قطاع السياحة،
وضربوا المستشفيات والجامعات والمدارس،
وفجروا المصانع والمعامل لشل الصناعة،
وعطلوا الموانئ وقصفوا الاهراءات لضرب التجارة،
أما بما يختص بقطاع الزراعة فقد ادى التهجير الطائفي الى إبعاد أكثرية المزارعين عن أرضهم، هذا وقد تم إغراق السوق اللبنانية بالمنتجات والبضائع السورية وفي كثير من الأحيان بأقل من سعر الكلفة، وذلك لشل ما تبقى من هذا القطاع، الشيء الذي أدى الى هجرة البقية الباقية من المزارعين لأراضيهم بنسبة خطيرة لم يشهد لها لبنان مثيل في تاريخه القديم او الحديث.
أما من ناحية ضربهم للثروة البشرية فقد فرض المحتل السوري مليوناً ونصف من العمال السوريين على لبنان مما زاد من هجرة اليد العاملة اللبنانية لعدم توافر فرص العمل في لبنان.
وحاولوا القضاء على، أو تحييد كل شخص يرفع لواء الاستقلال والكيان اللبناني وينادي بالتعددية (مقتل رياض الصلح، القائد الشيخ بشير الجميل، الدكتور كمال يوسف الحج، النقيب رياض طه، سليم اللوزي، المفتي حسن خالد، مصطفى جحا…الخ)، (اعتقال القائد الدكتور سمير جعجع، الدكتور توفيق الهندي، بطرس خوند …الخ) (نفي العماد ميشال عون، الرئيس صائب سلام، الرئيس أمين الجميل …الخ ).
كما فجروا كنائس، وأصدروا قرارات حل ومنع، وابتاعوا ضعاف نفوس، وأمطروا الشرفاء الذين لا يباعون بتهم العمالة والتصهين، واشتروا أصوات انتخابات داخلية، وأرهبوا مؤيدين، وغربوا قاعدة، وصادروا مناشير، وأصدروا أحكام الإعدام والحبس المؤبد والنفي .
كل هذا للقضاء على الأحزاب والتجمعات التي تنادي بالقومية اللبنانية وبالهوية اللبنانية المميزة، على امل ان لا يقوم لها قائمة بعد ذلك.
كما حاولوا وما زالوا يحاولون القضاء على الاستقلال والكيان اللبناني من خلال تذويب هذا الكيان بالكيان العربي السوري المحتل من خلال مقولات تلازم ووحدة المسارين ومن خلال فرض اتفاقيات تعاون بلغت حتى اليوم اكثر من ثمانين اتفاقية تذويبية، غرضها الأساسي ربط القرار السياسي والعسكري بسوريا والتحكم بما تبقى من الاقتصاد اللبناني للقضاء عليه.
ومن ثم حاولوا القضاء على الترابط بين لبنان وأبناءه في الاغتراب من خلال ضرب هذا الاغتراب وتفتيته وهو الشريان الذي يضخ الدم الى الجسم اللبناني المنهك، وخشبة الخلاص التي طالما أنقذت لبنان في ساعات شدته .
فاستنبطوا بدعة وزارة المغتربين لشق الصف اللبناني في الخارج ولاحتواء الاغتراب. ولما لم يدخل الاغتراب في لعبة ( وزارة الخارجية، وزارة المغتربين) ولم تحقق تلك الوزارة أهداف أسيادها تم إلغائها.
واتجه الرأي الى ضرب الاغتراب من خلال ضرب الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم وهي جمعية مستقلة غير حكومية تهتم بشؤون الانتشار اللبناني في العالم. فدخلت وزارة الخارجية على خط الجامعة وعملت على التأثير في الانتخابات الإدارية وبالتالي فوز بعض محاسيبها بأهم المراكز في الجامعة.
ومن أساليب ضرب الاغتراب ايضاً محاولة فصل الاغتراب عن بكركي وإفشال أي تحرك يقوم به غبطة البطريرك مار نصرالله صفير في الخارج وما حصل من تدخل سافر وضغوطات من قبل الدولة في جولة غبطة البطريرك الى أميركا الشمالية لإفشال هذه الزيارة ومنع الرئيس الأميركي من استقبال غبطته وعمل بعض رجال الدين في الخارج من الذين يدورون في فلك النظام اللبناني للتعتيم على الزيارة والتقليل ما امكن من اللقاءات الشعبية لغبطة البطريرك الا الدليل الساطع على العمل الدؤوب لعزل الاغتراب عن بكركي وسيدها الذي لم يتوانى ولو لثانية واحدة عن الدفاع عن حرية وسيادة واستقلال لبنان وعن التواصل مع أبنائه في الاغتراب لتحقيق هذه الأهداف.
وأخطر حلقات خطة تفتيت استقلال الكيان اللبناني برأي هي محاولة رافعي شعار التعريب والتذويب القضاء على الذاكرة الوطنية وغسل دماغ الأجيال الطالعة بقولبة التاريخ اللبناني وتزويره والعمل على استئصال الجذور الحضارية للمجتمع اللبناني واستخدام كل وسائل الإعلام المرئي والمسموع والإلكتروني التابعة للدولة لبث هذه السموم نظراً لما هذه الوسائل الإعلامية من تأثير على الأجيال الصاعدة.
ولم يقتصر تأثير هذه السموم على النشء اللبناني ولكن تعداه لكل مهتم بشأن لبنان. فأن معظم المنظمات ومراكز الأبحاث المهتمة بالشأن اللبناني، ونظراً لعدم توافر الإحصاءات الجدية والدراسات العلمية نظراً لحالة لبنان منذ قيام حرب الآخرين على أرضه راحوا يتبنون هذه المعلومات الخاطئة بدون أي سؤال لأنها صادرت عن مؤسسات ومصادر رسمية.
فمثلاً لو دخلت الى أي موقع على الإنترنت يتكلم عن لبنان، ويتضمن ما يعرضه عن لبنان أي نوع من الإحصاءات التي تختص بالامة اللبنانية تجد تحت عنوان ” الاصول الاتنية للأمة اللبنانية (Ethnic Roots) بأن اللبنانيين هم %95 عرب – %4 أرمن – %1 اتنيات مختلفة.
وهكذا وبشحطة قلم طارت كل الحضارات التي الفت المجتمع اللبناني قبل الفتح والاحتلال العربي وطارت جذور المجتمع اللبناني التي ترجع الى اكثر من ستة الاف من السنين.
وكأن هذا القدر من التزوير لا يكفي، بل ويحاولون اليوم إدخال هذه الأكاذيب الى كتاب التاريخ المدرسي لجعلها من الثوابت التاريخية في عقول النشء اللبناني. والمتتبع لما يجري من سجال حول كتاب التاريخ المدرسي منذ أكثر من سنتين، يعرف كيف يجري تزوير تاريخ لبنان في المناهج الرسمية وتجميل صورة الاحتلال العربي وجعله إعادة تحرير شعبي لأرض سليبة.
هذا ناهيك عن تكثيف (وبقدرة قادر) عقد المؤتمرات العربية على أرض لبنان كلما صحي العرب من سباتهم واشتاقوا الى الهوبرة وهز العصى لإسرائيل من خارج أراضيهم، وتكثيف عقد المعارض والمحاضرات عن الأمجاد العربية وكأنهم يكرسون لبنان منبراً وحيداً للعرب.
هذا المنبر الذي يريدون من اعتماده تكريس عروبة لبنان بشكل نهائي وتجنب الإحراج في الغرب كلما تغنت هذه المعارض والمحاضرات بالمقاومة المنتصرة في جنوب لبنان وبأحزاب الله والإسلام.
هذا عدا عن الإرهاب الفكري الذي يمارس على اللبنانيين من منع طبع أو إعادة طبع أو نشر أي كتاب أو دراسة أو بحث يهتم بالحضارة اللبنانية المميزة.
والرقابة الستالينية على المطبوعات والقيامة التي تقوم، والتهديد والوعيد الذي يحصل كلما تكلم مفكر لبناني عن حضارة لبنان، والتعددية التي قام عليها لبنان في أي من المنابر.
ولنا في الخضة التي تحصل كل سنة في عيد مار يوسف، عندما يتكلم الأب سليم عبو رئيس جامعة القديس يوسف ويحاضر عن الحضارة اللبنانية المميزة، وعن تميز المجتمع اللبناني عن باقي المجتمعات في المنطقة خير دليل على ما نقول .
أخطر حلقات المؤامرة
ونحن وقد قلنا في بداية هذه الفقرة بأنها أخطر حلقات مؤامرة تفتيت استقلال الكيان اللبناني، لأن باقي الحلقات استهدفت ضرب المقومات المادية والمؤسساتية والاجتماعية للكيان اللبناني واحتلال الأرض ولكن هذه الحلقة تستهدف ضرب المقومات المعنوية واحتلال العقل والقلب اللبناني وهذا هو الخطر، الخطر.
وهو ما حذرنا منه قائدنا الشهيد الشيخ بشير الجميل عندما قال: “التاريخ مليء بأمثلة لدول احتلت دولاً أخرى وحاولت تركيع شعوبها، لكن التاريخ مليء أيضاً بأمثلة شعوب رفضت الاحتلال وقاومته ومنعت أن يكون أكثر من احتلال أرض ومساحات من دون أن يتعدى ذلك الى العقل والقلب والنفس”.
نعم أن العقل والقلب والنفس هي تلك المساحات من ال 10452كلم2 التي لا يمكن لجيش غريب أن يطأها إلا إذا كنا ضعيفي الأيمان. وهي المساحات التي أن حافظنا عليها استعدنا استقلالنا كاملاً وانتصر شهدائنا ووطننا لا محالة في النهاية.
وضعفت كل حلقات المؤامرة وتلاشت مهما كانت مدمرة. وهي ذخيرة عود الصليب التي أن وضعناها على قبر لبناننا كفيلة في أن تقيمه في اليوم الثالث وأن تستعيد استقلاله ولكن مفاتيح هذه الذخيرة هي الأيمان أولاً والعمل الدؤوب ثانياً.
ونحن في المقاومة اللبنانية وقد سطرنا أروع ملاحم البطولة والشهادة في سجلات القضية عندما كانت البارودة هي قلم المقاومة.
ونحن من أمن بالفكر منذ نشأتنا وحمل علم التعددية والهوية اللبنانية المميزة واستشهد من اجل ان يبقى لبنان مستقلاً وغير منعوت الا بذاته.
من واجبنا اليوم وقد أصبح القلم بارودة المقاومة مضاعفة جهودنا وإنتاج فـكر مقاومـاتي على مستوى المجتمع ككل، وبمشاركة المجتمع ككل لأننا وكما كنا الدرع الواقي لمجتمعنا في الحرب العسكرية يجب ان نكون أيضاً في الحرب الفكرية الدرع والمنارة التي تضيء طريق الخلاص وتعطي شعبنا الثقة لإكمال الطريق مهما كانت صعبة .
وأخيراً ولأنني أؤمن إيمان قاطع بأنه مثلما ولد من الماء زيت في سراج القديس شربل ومن ذاك الزيت خرج نور أضاء العالم، كذلك سيولد، بفعل إيماننا وعملنا، من تحت أشلاء بلدنا المدمر ومن دم شهدائنا ومن ظلمة زنزانة قائدنا (الحكيم) ومن إرادة باقي أقطاب المعارضة لبنان جديد لن تقوى على حريته وسيادته واستقـلالـه كل أعـاصير العـالم.
وأحـب أن أخـتم مقـالتي هذه بفعـل إيمان بلبنان واستقلاله كتبـه الأستاذ فاضل سعيد عقل يعبر أجمل تعبير عن ايمان كل لبناني حر الفكر، مقاوم للطغيان (لاستعادة استقلال لبنان) بالعقل والقلب والنفس.
فعل الإيمان بلبنان: “أؤمن بلبنان واحد، هو أبي وأمي، سرمدي، مستقل، موئل للحرية، متبوع غير تابع، حضاري الانتماء، لبناني الهوية، غير موصوف ولا منعوت إلا بذاته، قائد غير مقود، منبثق من جوهر الوجود الإلهي، ذي تراث أصيل، وحضارة فاعلة، وشخصية فريدة، ورسالة خالدة، متمسك بميراثه، مقاوم كل أنواع الطغيان والتسلط والهيمنة والخوف والعنف والإرهاب ، منفتح على كل التيارات والمدنيات والمعتقدات، محاور الى أن لا يجدي الحوار، محارب حيث لا بد من حرب للدفاع عن حقه والمحافظة على وجوده، قائم على وحدة وطنية عضوية صادقة، سيّد مصيره وقراره الوطني مستقل، متحرر من كل مرّكب نقص، عدّو لكل استعمار واحتلال واستثمار الإنسان للإنسان. وأؤمن بأن لبنان حي بجوهره لا يموت ولا يخون نفسه، وبأنه باق كما هو الى نهاية العالم”.