حين يعتصم موظفو الدولة وحدهم ضد الإجراءات "الموجعة"

  • شارك هذا الخبر
Thursday, April 18, 2019

في الوقت الذي كان يتحدّث فيه الرئيس سعد الحريري من تحت قبّة البرلمان، عن أنّ الحكومة لا تهوى تخفيض الرواتبّ، لكنّ الأمور وصلت إلى الحد الذي يفرض عليها اتّخاذ إجراءات جذريّة، وأنّ عدم الإقدام على مثل هذه الإجراءات الصعبة والحقيقية، قد يؤدّي إلى الوقوف دقيقة صمت عن روح البلد، كان المعتصمون في ساحة رياض الصلح يرفعون شعارات "إيدك عن معاشتنا" و"رواتبنا خط احمر".. وغيرها من الشعارات المندّدة بعدم تخفيض رواتب الموظفين في القطاع العام. لكنّ الحريري لم يحفظ أحد أهمّ الدروس "الشعبويّة" اللبنانيّة التي يٌجيدها أقرانه من القوى السياسية ويحفظونها عن ظهر قلب، وهي عدم إطلاق الشعارات غير الشعبيّة، لأنّها سترتد عليه دون غيره من السياسيين. فهؤلاء سرعان ما يتملّصون من تعهداتهم. حتى حزب الله، الذي حضر نائبه إبراهيم الموسوي بين المعتصمين، مطلقاً الوعود بحل مشاكل الناجحين في مجلس الخدمة المدنية، يستطيع التملّص من إجراءات خفض الرواتب، في حال حصلت، متذرّعاً بألف سبب وسبب، رغم كون سطوته كفيلة بإيقاف أيّ قرار ساعة يشاء. وحده الحريري سيكون في المواجهة في نهاية المطاف، طالما أنّ جماهير الأحزاب السياسيّة التي كانت حاضرة في الاعتصام، توجّه إصبع الاتهام بإفلاس الدولة إلى آل الحريري حصراً، رغم أنّ أحزابها شريكة في إدارة أو "نهب" مقدرات البلد.

ضعف المشاركة
في هذا الاعتصام، الذي ترافق مع إضراب عام في جميع إدارات الدولة والمدارس الرسميّة والخاصّة، والذي دعت إليه جميع الروابط والهيئات النقابيّة والعمّالية، لم يكن الحضور حاشداً كما كان متوقّعاً، وباعتراف المشاركين، الذين لم يخفوا امتعاضهم من ذلك: "خلّينا ساكتين، لمّن بيشارك أقل من عشرة بالمية من عنّا، ما رح يمشي الحال"، قال أحد المعتصمين لزميله شاكياً. "من أين أتى نزيه جبّاوي برقم الخمسين ألف مشارك"، همست في أذني إحدى المعلمات. أومأت برأسي مواقفاً ومؤكداً على استغرابها بهذا الرقم، الذي تفوّه به رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي في لبنان، على وقع زلّة حماسة زائدة في مخاطبة الجماهير. إذ لم يتخطّ عدد المشاركين الألفي شخص، رغم أنّ حجم القطاع العام وحده يقدّر بنحو ثلاثمئة ألف موظف، يضاف إليهم آلاف المتعاقدين في جميع القطاعات، كي لا نحتسب معهم آلاف الأساتذة في القطاع الخاص، الذين ستطالهم تلك الإجراءات التقشّفية التي يحكى عنها، والتي كانت الدافع الأساسي للاعتصام.

تعدد المرجعيات
خطابات كثيرة وحماسية، لا نبالغ في القول إنّ عددها فاق عدد المعتصمين وهذا يدلّ على عدم وجود رؤية وخطاب موحّد يجمع بين المعتصمين، أو على أبعد تقدير يدلّ على أنّ مطلقيها أرادوا تثبيت عدم غياب قطاعاتهم وروابطهم عن الحدث. فتعدّد المشارب السياسيّة للمشاركين الموزّعين على كامل الطيف اللبناني، المشارك في السلطة والمعارض لها، أدّى إلى صعود عشرات الخطباء إلى منبر الخطابة، ما جعل المعتصمين غير منصتين للكلام المعاد والمكرّر، فتوزّعوا إلى مجموعات صغيرة، راحت تتبادل الأحاديث الخاصة. فقد كان يكفي إلقاء كلمة واحدة تحمل رسالة واحدة، طالما أنّ الجامع المشترك لجميع الكلمات هو رفض تخفيض العجز المالي للدولة على حساب الموظفين.
وحدها كلمة ممثّلة المتعاقدين في التعليم الأساسي أتت مخالفة لجميع الكلمات الحماسيّة المندّدة بسياسات الحكومة، والمحذّرة من مغبّة المس برواتب الموظفين. إذ اكتفت بمطالبة بقية الروابط الوقف إلى جانب المتعاقدين في مطالبهم، وحمّلتها المسؤولية بما وصلت إليه الأمور، ما سمح للسّلطة استسهال مدّ يدها إلى جيوب الموظفين.

جلد الذات
أتت الشعارات الكثيرة التي حملها المعتصمون متجانسة مع الحدث، محذّرة الحكومة من خفض الرواتب، وحمّلتها مسؤولية العجز المالي الحالي جرّاء الهدر والفساد. وإذا كان بعضها قد أعاد تأكيد المؤكّد بأنّ "رواتب الموظفين من تعبهم بينما رواتب المسؤولين من الضرائب التي يدفعها الشعب"، إلا أنّ بعض الشعارات المرفوعة المأخوذة من الكوميديا السوداء، مثل "يا ضيعان تعبنا فيكم" و"مش هيك علّمناكم بالمدرسة" أشبه بجلد الذات، خصوصاً أنّ معظم التوظيفات أتت ليس بناءً على حاجة الدولة لها، بل في إطار الزبائنية السياسية والطائفية.

الاستقواء على الموظفين
ورغم كون رواتب الموظّفين والتقديمات الكثيرة الممنوحة لهم، تشكّل حلقة صغيرة في عجز الدولة، قياساً بالهدر والفساد، إلا أنّ تضخّم هذا القطاع، وعدم انتاجيّته تجعل من أي مواطن أو موظف في القطاع الخاص غير مكترث لمظلوميّة المعتصمين. وصحيح أنّ "الحكومة لا تقوى إلا على الحلقة الضعيفة"، أي الموظفين، ووجدت أنّ أسهل الطرق لسدّ العجز هي "المس بمكتسبات القطاع العام"، عوضاً عن المضي بإصلاحات سياسية ووقف الهدر، كما قال رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر. لكن التهديدات الكثيرة والأصوات التي ارتفعت، لن تغيّر كثيراً في المعادلة في حال توافقت القوى السياسية على المضيّ بالإجراءات "التقشفية الموجعة"، خصوصاً أنّ الغالبية العظمى من الموظفين، إسوة بنقاباتهم، تابعون للقوى السياسية التي ستقتنص تعبهم.


المدن