الموت غيّب صاحب "وصيّتي إلى الموارنة" ميشال العويط

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, March 27, 2019

غيّب الموت حافظ السرّ البطريركيّ المارونيّ لأربعة وثلاثين عاماً الخورأسقف ميشال العويط، بعد أن أمضى في خدمة الكنيسة المارونيّة أكثر من واحد وستين عاماً، كاهناً وأميناً للسرّ، في أبرشيّة طرابلس المارونيّة أولاً، وفي الكرسي البطريركيّ ثانياً، ونعته بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق المارونيّة وأبرشيّة طرابلس المارونيّة وعائلته.
الراحل ولد في بزيزا، الكورة، في العام 1930. سأله أحد أمراء الكنيسة المارونيّة أثناء زيارة رعائيّة إلى بلدته صيف العام 1941:"أتريد أن تصبح كاهناً؟". كان الأسقف في البيت الوالدي أو "البيت المارونيّ" المتآلف مع بيئة أرثوذكسيّة واسعة وشيعيّة متآخية، وهو البيت الذي كان قد شكّل محطّة تاريخيّة خلال نزول البطاركة العظام وبياتهم فيه كالحويّك وعريضة، في طريقهم إلى مقرّ البطريركيّة الصيفي في الديمان.
نعم قالها، قبل أن ينتقل إلى تلقّي علومه في إكليريكيّة مار يعقوب كرمسده قضاء زغرتا، ولينتقل بعدها إلى إكليريكيّة غزير العام 1947 متعرّفاً على يسوع وعلى الإنسان، ومن ثمّ على الكتاب المقدس "قصة حبّ" كما يصفه، ليرتسم كاهناً العام 1958 وليعتنق دعوة التعليم والكرازة من يومها.
تخرّج في الفلسفة واللاهوت من جامعة القدّيس يوسف، ثمّ في علم الاجتماع من الجامعة الكاثوليكيّة في باريس.
قبل أن يخرج الخوري ميشال من الصرح البطريركيّ إلى عزلة أسراره، مواصلاً في منزل العائلة في بزيزا، صيفاً، وفي مستشفى القرطباوي في أدما، شتاء، تأمّله في المسيح، وتأليف الكتب الدينيّة، حدث أنه بعد وفاة البطريرك بولس بطرس المعوشي في 11 كانون الثاني 1975، أن التأم مجلس الأساقفة الموارنة لانتخاب خلف له. فاستدعي الخوري ميشال من أمانة سرّ أبرشيّة طرابلس في عهد المطران أنطون عبد، ليضطلع بأمانة سرّ المجمع الذي انتخب المطران أنطونيوس خريش في 2 آذار 1975 بطريركاً. فعيّنه الأخير أميناً لسرّ البطريركيّة المارونيّة مختصراً إياه بقوله: "وحده بين المشاركين في المجمع بقي حافظاً للسرّ ولم يبح بكلمة واحدة عمّا جرى من وقائع الجلسات ومجرى الانتخاب".
بعد استقالة خريش في 3 نيسان 1986، التأم المجمع لاختيار خلف له، فأعاد الكرّة بتعيين الخوري ميشال أميناً لسرّه. وكما في المرة السابقة حفظ الأمين سرّه، فلم يستطع أحدٌ أن يُخرج من فمه كلمة واحدة. انتخب المجمع المطران نصرالله بطرس صفير بطريركاً في 19 نيسان 1986، فقدّم إليه الخوري ميشال استقالته، فرفضها البطريرك المنتخب، وأبقاه في أمانة السرّ البطريركيةّ وزاد عليها بتعيينه أميناً لسرّه الشخصيّ.
بقي في منصبه هذا حتى استقالة البطريرك في العام 2011 وانتخاب بطريرك جديد هو المطران بشارة الراعي في 15 آذار من العام نفسه. فقدّم إليه الخوري ميشال استقالته جرياً على قاعدة الأصول التي اتبعها وحيداً، فرفضها البطريرك، لكن أمين السرّ ارتأى أن يلحّ على استقالته، وهكذا كان. فانسحب من يومها إلى عزلته الروحيّة الصامتة راضياً، ومغبوطاً بالإيمان الجوهريّ، بعيداً عن الصخب الدنيوي الزائل وبهرجات أهل الفانية.
"الدينامو" النشيط والمثابر، تأبّطت ذراعه كبار رجال الدين والدنيا المحلّيين والإقليميين والدوليين وهم يصعدون درج بكركي، وهو عرف أثر الدنيوي ومكانته في نفوس الكثيرين منهم، وترهّل الزهد والتعفف والترفّع. كما التقى وجالس بابوات ورؤساء دول وشخصيّات دوليّة وإقليميّة ومحلّية وعرف الأسرار وتكتّم عليها.
كاهن المسيح الذي لم يصرّح يوماً علناً، اكتفى بالكتابة المكثّفة عن الوجدان المارونيّ حيث نشر وجهّز للطبع أكثر من ثلاثين مؤلّفاً ومخطوطاً دينيّاً وروحيّاً بالعربيّة والفرنسيّة والانكليزيّة والاسبانيّة. ولعلّ أكثرها جدلاً كان "ملح الأرض " و"الموارنة من هم وماذا يريدون"، وكتابه الأخير "وصيّتي إلى الموارنة" عن دار النهار للنشر.
الأوّل قدّم له المطران نصر الله صفير يومها، وأثار عاصفة في صفوف أمراء الكنيسة المارونيّة الذين اعتبروا فيه انتقاداً لدورهم ومسؤوليّة يتحملوها في الانحراف عن حياة الموارنة الأول الذين ساروا على درب الرسل.
أما الثاني فحظي بثلاث افتتاحيّات في صحيفة" النهار" ممهورة بتوقيع الكاتب والصحافي الكبير الراحل ميشال أبو جودة.
أما الثالث فقدمّ له البطريرك بشارة الراعي "عن أعزّ رغبة وأمنية وهي أن يعيش الموارنة هذه الوصيّة"، وشهد الكتاب عشرات المراجعات في الصحف ومحطات التلفزة والإذاعة.
الراحل وقد تلمّس مرارة أن تشهد رسالة الموارنة الكثير من الخيبات، خلّد ذكراه في كتابه الأخير في وصيّة تنطوي على شهادةٍ متواصلة للمسيح، لا تكلّ ولا تملّ؛ وتظهير – وقد عايش الاشكاليّات الأكثر حراجة في تاريخ الموارنة الحديث - لكيفية الخروج من المأزق الذي يتخبّط فيه اللبنانيون، وما يحتاج إليه الموارنة قبل أيّ شيء آخر، منطلقاً من صفاء وهج تاريخهم والمسؤوليات التي حملوها والمواقف الروحيّة والزمنيّة الوطنيّة الكبرى التي اتخّذوها مع بطاركتهم ماضياً وحاضراً، مقدّماً خريطة طريق للبنانيين أجمعين في دستور حياة روحيّ وزمنيّ، للخروج من الأفق المسدود الذي وضعوا أنفسهم فيه، ووضعهم فيه الآخرون، على حدّ سواء.
هكذا، رغم الليل اللبنانيّ الموجع هذا، تأتي " الوصايا " كمنارة للموارنة واللبنانيين أجمعين السائرين في عتمة المصائر والتحدّيات الوجوديّة.
تقام صلاة الجناز لراحة نفس الخوري ميشال الذي كان دائماً يردّد إن الحياة في المسيح جميلة، ورحل وهو العارف أنّ سعادته الحقيقيّة والنهائيّة إنّما تكمن في المسيح، الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر يوم الجمعة 29 آذار في كاتدرائية مار جرجس المارونيّة – وسط العاصمة، لينقل جثمانه بعدها إلى مسقط رأسه بزيزا- الكورة حيث تُرفَع صلاة البخور لراحة نفسه في كنيسة القدّيسين قوزما ودميانوس الرعائيّة، ويوارى الثرى في مدافن العائلة.
تُقبل التعازي قبل صلاة الجناز في صالون كاتدرائية مار جرجس، من العاشرة صباحاً، وفي الكنيسة مباشرةً بعد الجنّاز، ثم بعد الدفن في مسقط رأسه بزيزا، ويومي السبت والأحد 30 و31 منه في صالون كاتدرائيّة مار جرجس المارونيّة من الساعة الحادية عشرة إلى السابعة مساء.