محمد قواص - السعودية – المغرب: عن أزمة لا يمكن للصمت علاجها

  • شارك هذا الخبر
Saturday, February 16, 2019

يرصد العارفون بتاريخ العلاقات بين السعودية والمغرب مبالغة في الأحاديث الإعلامية التي رسمت “مساحة رمادية” في العلاقة بين البلدين، انطلاقا من بعض التطورات المنفصلة في سياقاتها العامة، كعرض قناة العربية لبرنامج عن الصحراء المغربية، زعم البعض أنه أغضب المغرب. وجاءت محاولة استغلال هذا الموضوع بالتزامن مع إعلان المغرب مراجعة دوره في التحالف العربي باليمن في ظل التطورات التي شهدها هذا الملف. مع ذلك، لا ينفي الخبراء أن هذا الجدل يفرض على الرياض والرباط إعادة ترتيب الملفات وتصويب التموضع حولها، وأن النجاح في إخماد أعراض عتب لا يمكن السماح بتحوّله إلى خلاف، لا يخفي ضرورة الحديث بصراحة والقطع مع أي محاولة تسعى للمرور عبر ثغرات الصمت أو الرد الدبلوماسي الكلاسيكي.

تعطي الرياض والرباط دروسا هذه الأيام في فن الدبلوماسية. ترسم العاصمتان بحرفية عالية خرائط إدارة ما قيل إنه خلاف بين السعودية والمغرب. وفيما تتبرع منابر الإعلام في رشّ بهارات على طبق مفترض، وصبّ الزيت على نار متخيلة يبرع البلدان في مواراة أي جلبة وتغييب ما يمكن أن يُفهم منه وميض لتباين رسمي بين المملكتين.

تندرج علاقات السعودية والمغرب ضمن ما هو استراتيجي تاريخي عتيق. للمملكتين رؤية واحدة في طبيعة النظام الحاكم كما في مقاربة شؤون العالم. ترافق البلدان منذ عقود في مسار واحد، اخترقا، في إحدى مراحله، عقودا طويلة صعبة من الحرب الباردة، وبقيا داخل خندق واحد حين انبرت الجمهوريات، لاسيما “الثورية” منها، في العالم العربي تناطح تيارا محافظا مثّلت السعودية والمغرب أقوى أركانه.

وفي مقارنة طبيعة العلاقات الحالية المتوترة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وما يمثلانه من تحالف أطلسي غربي متجذر في ماضيه وعقائده مع طبيعة علاقات الرياض بالرباط هذه الأيام، يظهر أن أمر ذلك بين السعودية والمغرب لا يعدو كونه “سحابة صيف”، على حد تعبير السفير المغربي لدى الرياض. وفيما يجهد البلدان في نفي الخلاف وإنكار أعراضه، يبدو واضحا أن علامات التباين تراكمت على النحو الذي بات ظهورها لا يخفى عن عين المراقب.

دوّر المغرب زوايا الحدث وأدارها بروية وأعاد سفيره إلى الرياض بعد أن نفى وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة أنباء استدعائه وسفير الرباط لدى الإمارات. قال بوريطة، الخميس، إن سفيريْ بلاده في السعودية والإمارات “تركا بلديْ عملهما للحضور للرباط من أجل اجتماعات طبيعية لدراسة التحولات التي تعرفها منطقة الخليج”.

قبل ذلك بأيام، كان السفير المغربي لدى السعودية، مصطفى المنصوري، قد شرح، وفق منابر إعلامية، أن “سبب استدعائه يتعلق بالمستجدات التي طرأت أخيرا على مستوى العلاقات بين البلدين، خاصة بعد بث قناة العربية، المقربة من الدوائر الحاكمة في السعودية، لتقرير مصور ضد الوحدة الترابية للمملكة المغربية، والذي اعتبر كردّ فعل على مرور وزير الخارجية والتعاون الدولي ناصر بوريطة في برنامج حواري مع قناة الجزيرة القطرية”.

تكشف التقارير الإعلامية أنه بعد مقابلة وزير الخارجية المغربي بوريطة مباشرة مع القناة القطرية، بثت قناة العربية السعودية، فيلما وثائقيا حول الصحراء المغربية، تحدث عن أن “المغرب غزا تلك المنطقة، عقب مغادرة المستعمرين الإسبان لها في عام 1975”، وهو ما يرفضه المغرب الذي يعتبر الصحراء جزءا من أراضيه الجنوبية. غير أن للحكاية مقدمات أخرى.

لم يكن مفاجئا موقف المغرب من قرار المقاطعة الذي اتخذته السعودية ومصر والإمارات والبحرين ضد قطر في يونيو 2017. حافظت الرباط دوما على نقطة حياد وتوازن في علاقاتها العربية. وتمسك المغرب بسياسة خارجية تظهره مستقلا في قراراته وتوجهاته وخياراته الخارجية. ومع ذلك فإن الحياد، وإن كان موقفا اتخذته دول كثيرة حيال نزاع الرباعية العربية مع قطر، قد أُلحق بقرار مغربي بإرسال مساعدات للدوحة لا يمكن إلا أن يفوح منه عبق الانحياز.

بالمنطق لا تحتاج قطر إلى مساعدات من المغرب. قطر دولة ثرية وتحظى بعلاقات دولية وشبكات تواصل ومواصلات عبر العالم لم توقفها قرارات المقاطعة. وعلى ذلك فإن لقرار المغرب بإرسال مساعدات لقطر، رسائل مرمّزة لا يمكن إلّا أن تفهمها جيدا دول المقاطعة كما دولة قطر.

ربما أن للمغرب أسبابه واستراتيجياته في إدارة علاقاته مع السعودية، لكن بالمقابل لا يمكن للرياض إلا أن تأخذ علما بتباين الموقف المغربي ونزوعه إلى تظهير اختلاف لا يمكن اعتباره حياديا في مسألة النزاع القطري. وفيما قارب البلدان هذا “الإشكال” بالصمت، فإن ملفات عديدة تراكمت، وبدا أن أمر مقابلة وزير الخارجية المغربي على قناة الجزيرة وتقرير قناة العربية حول مسألة الصحراء معطوفا على استثناء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان المغرب من جولته المغاربية في نوفمبر- ديسمبر الماضيين، هو تعبير عن فشل دبلوماسية الصمت.

لا يقوى البلدان على فضيلة الصمت لكنهما، وكما بدا من خلال حكمتهما الدبلوماسية في الأيام الأخيرة، لا يتحملان الضجيج. بدا أن ما سُميّ استدعاء للسفير المغربي في الرياض للتشاور يعكس رد فعل على ما لا يمكن السكوت عنه في مسائل الموقف البنيوي من قضية الصحراء. قد لا يمكن التعويل على برنامج قناة العربية بصفته موقفا رسميا يمثل الدولة السعودية، لكن حساسية المغرب بشأن “الوحدة الترابية” لا تحتمل سكوتا عما هو حقّ يسعى المغرب، منذ المسيرة الخضراء للملك الراحل الحسن الثاني في نوفمبر 1975، إلى تأكيده والدفاع عنه لدى محافل العالم أجمع.

تعرف الرباط أن موقف السعودية التاريخي كما موقف مجلس التعاون الخليجي كان متضامنا مع المغرب داعما له، متماهيا مع نهجه في مسألة الصحراء. وتعرف الرياض أن العلاقة مع المغرب، في حميميتها وإشكالاتها، لا يمكن أن تمسّ الموقف السعودي من مسألة استراتيجية بالنسبة للمغرب يمكن اعتبارها مسألة كل المغاربة، قصرا وحكومة وشعبا. وعلى هذا أخمد البلدان بحنكة أعراض عتب لا يمكن السماح بتحوّله إلى خلاف.

على أن إنكار التباين ووأد علاماته لا يمكن أن يكون سبيلا ناجعا لبناء علاقات يفترض أنها استراتيجية عتيقة بين السعودية والمغرب. صحيح أن المنابر الرسمية نجحت في تبريد الأزمة وحتى نفي وجودها أصلا، إلا أن الأمر بات يحتاج إلى الانكباب على ورشة جادة لنزع الألغام وتبديد تلك الضبابية التي تخيّم على بعض الملفات المشتركة. فإذا ما كان الـ”لا قول” هو فلسفة مشتركة لطالما تنتهجها الملكيات المحافظة في المنطقة والعالم، وإذا ما كان الـ”لا خبر هو خبر جيد”، كما يقول المثل الإنكلوسكسوني، فإن أمر العلاقة بين المملكتين اللتين تشكلان قطبي المسافة بين المحيط والخليج، بات يتطلب نهجا آخر خلاقا، فيه من العلنية ما يعيد ترتيب الملفات ويصوّب التموضع حولها.

تطوّر موقف المغرب من حرب اليمن، وقال وزير الخارجية المغربي إن المشاركة المغربية “تغيّرت”، وإن المغرب لم يعد يشارك في المناورات العسكرية، والاجتماعات الوزارية لقوات التحالف. في ذلك أن الرباط ترسل رسائل امتعاض وتحفّظ لا بد للرياض أن تفهمها وتتفهمها. أمر اليمن يخضع هذه الأيام لحسابات دولية تشارك فيها دول العالم الكبرى. وموقف المغرب في شكله لن يؤثر على المسارات الدولية في هذا الشأن، لكنه في مضمونه يعبر عن ارتباك في سياقات التنسيق والتشاور والتكامل في سيرة البلدين وحكاية علاقاتهما.

” أزمة قطر مسألة صغيرة جدا جدا” وفق تصريحات ولي العهد السعودي في أكتوبر 2017. بالمقابل فإن الصحراء بالنسبة للمغرب هي مسألة كبيرة جدا جدا. وعليه لا يمكن الاستخفاف في استخدام أدوات الفعل ورد الفعل في أبجديات العلاقات السعودية المغربية. فلا يخفى على الخليجيين أنه جرى ترشيح المغرب والأردن ليكونا جزءا من مجلس التعاون الخليجي من خارج الحيّز الجغرافي لدول الخليج، ولا يخفى أن المغرب يمثل ضفة خليجية أخرى على شواطئ الأطلسي. ولقد بدا أن طنجة التي اعتادت أن تستضيف ملوك السعودية صيفا صارت عاصمة سعودية أخرى تجري من داخلها إدارة الدولة وشؤون الرياض مع العالم. صحيح أنه “إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب”، إلا أن أمر العلاقة بين السعودية والرياض لم يعد يحتمل الصمت والسكون.